د. عادل سمارة
مع لحظة ظهور نتائج انتخابات مجلس الحكم الذاتي، أعلنت الرباعية الدولية حالة الاستنفار على وليدها، أقصد الإنتخابات التي فرضتها هذه الرباعية على الحكم الذاتي الفلسطيني. فالرباعية، التي هي في جوهرها طرف أحادي من شقين، اي غربي مكون من الولايات المحدة والإتحاد الأوروبي، هي التي فرضت على ياسر عرفات رئيس وزراء. وسارت الأمور كما أرادت حيث خُلق منصب رئيس وزراء وتولاه شخص مقبول على الرباعية هو محمود عباس الذي اصبح لاحقاً رئيساً للسلطة الفلسطينية. لكن الرباعية وجدت نفسها في مأزق مزدوج حول نتائج انتخابات مجلس الحكم الذاتي من جهة، وحول منصب رئاسة الوزراء الذي اختلقته من جهة ثانية حينما انتهيا بيد حركة حماس.
لم تُنبت البذرتان نفس النبت الذي أراده زارعوهما! ولعل ما قالته الرباعية للفلسطينيين في أراضي الحكم الذاتي، كما قال سيد لخادمه:
"سأزوجك هذه الأنثى، ولكن عليك أن تنجب منها توأمين بخلقتي أنا... كما أريدهما أنا"! ويبدو ان العبد لم يفهم المغزى، فأنجب على طريقته.
بكل جلال قدرها، لجأت الرباعية الدولية لما هو أقل من قامتها بكثير. نعم، بعد أن أُسقط في يدها. لم تعد قادرة على القبول، كما لم يكن بوسعها المجاهرة بإعلان الحرب على حماس. فكان لا بد من إخراج ما تسمى الأسرة الدولية من تحت إبط اليمين الجديد في أميركا، أو إخراج هذه السرة من جدثها، فهي قد ماتت بعد غزو العراف 1991، وأفغانستان والعراق ثانية 2003. صار مطلوب من حماس أن تعترف بإسرائيل، ومطلوب منها أن تمتثل لشروط ألأسرة الدولية. ولعل هذا أخطر طلب في تاريخ القضية الفلسيطينة. فمجرد الإعتراف بإسرائيل هو شطب لحق العودة. وأن تقوم هذه "الأسرة" الشريرة بهذا الطلب، فهي تعلن تصفية القضية بلا موارية. ومع ذلك هناك كثيرون يرددون نفس المطلب!
ولكن، هل هو شرط أن تعترف بلد ما ببلد اعترفت به الأسرة الدولية؟ ألم تنكر هذه الأسرة الصين الشعبية طويلاً لصالح الصين الوطنية؟ ماذا فعلت الأسرة الدولية باعتراف تركيا بجمهورية قبرص التركية؟
ولكي تدخل حماس مطهر التسوية التي لم تولد إلا الغث بامتياز، كان لا بد من إخضاعها لضغوط تقود إلى كسر ظهرها في حالتي:
الإعتراف بما يعنيه من تخليها عن موقفها الذي أعلنته ضمن برنامجها الانتخابي أو عدم الإعتراف وبالتالي مواجهة عواقب لا نهاية لها.
من هنا بدأ العمل لإنقلاب مديد، بدأ بخطاب بلاغي عن موقف الأسرة الدولية من الإسلام السياسي، وهنا علينا الملاحظة أن الرباعية الدولية (باستثناء الأمم المتحدة التي ليست طرفا تنفيذيا في الرباعية) لا توجد اية دولة عربية ولا إسلامية ولا اشتراكية ولا عالمثالثية! إذن هي رباعية ذات جوهر ديكتاتوري أو أقلوي على ألأقل.
بادرت الولايات المتحدة بفرض الجدار المالي ضد الفلسطينيين في الضفة والقطاع، وأوعزت لإسرائيل باختطاف المقتطعات الضريبيبة، وبدأت بإرسال تحويلات مالية إلى رئيس السلطة الفلسطينية الذي قبل بذلك بدل أن يرفض على الأقل إخلاصاً للديمقراطية التي وصل من خلالها. بمعنى، إذا كنتم تريدون للناس أن تنتخب من تريد وأن تقول ما تريد، فهذا قول الناس. وربما فات السيد الرئيس التنبه إلى أن مجرد قبوله بما تفعله الرباعية هو إقرار بأن الفلسطينيين أدنى من حق الانتخاب والتعبير عن الراي وأن الناضجين والعباقرة في الغرب هم الذين يقررون للفلسطينيين كيف يفكرون وماذا يعملون.
وتتالت بعد ذلك مكونات إنقلاب ديمقراطي معولم، سواء بتوقف الدول العربية عن تحويل المساعدات للأرض المحتلة، وتوقف مختلف دول العالم، وتوقف البنوك الأجنبية والمحلية عن تسليم رواتب للموظفين، مخافة التعرض للعقوبات الأميركية، بغض النظر فيما إذا كان فرض العقوبات شرعيا أم لا. لقد ارتعبت الدول وراس المال. ثم جاء الإضراب الذي شل العلم والثقافة والصحة في الضفة والقطاع، والذي اثبت أن الساحة الفلسطينية فقيرة للتقليد النقابي. فالإضراب اتى هذه المرة من القيادة السياسية الطبقية للحكم الذاتي، اي من البرجوازية البيروقراطية، وامتثل الموظفون. جاء من السلطة، مع أن أول من يجب أن يمنع الموظفين من الإضراب هي السلطة. وأثبتت هذه الأمور أن كل شيء في الضفة والقطاع مقلوب أو مشوه أو شبيه للشيء الحقيقي. لكن هناك حقيقة أخرى أشد إيلاماً وهي تنتمي إلى النظام الإقتصادي في الضفة والقطاع، "الإقتصاد السياسي للفساد". فبموجب هذا النظام، لا يسعك العيش ما لم تكن فاسداً أو ساكتاً على الفساد. فالغالبية الساحقة من موظفي السلطة هم من حركة فتح، ولذا، بدأ الإضراب "شاملاً" لأنه إضراب لتنظيم أكثر مما هو لنقابة أو للمجتمع. والطريف أن أشد دعاة الإضراب كانوا ممن يتلقون أكثر من راتب ولا يتواجدون على رأس عملهم، وممن لديهم قوائم بموظفين بين موتى أو يعيشون في الولايات المتحدة.
ثم تكونت لجنة مساندة الإضراب وهي لجنة من الأجهزة الأمنية التي فرضت إضراباً تضامنياً يوم 29-11-2006 على رام الله بالقوة، كما حصل ضد بلدية البيرة ومصلحة مياه رام الله . اي كان منع تجول في ثوب إضراب. أما يوم 2 -12-2006، فقد فوجىء المواطنون بمسيرة لقوات ال 17 قرابة ألف جندي باسلحتهم في عرض عسكري برام الله لم يكن مسبوقاً بمثله من قبل. وكأن المسألة هي نحن هنا.
وتتوجت المسألة بالمحادثات الماراثونية لحكومة الوحدة الوطنية. وفي هذا المستوى، وقفت مختلف فصائل منظمة التحرير إلى جانب الرئاسة وضد حكومة حماس. مع أنه ربما كان الأصح لهذه الفصائل وخاصة القوى الديمقراطية (الإسم الجديد للقوى اليسارية) أن تتخذ موقفاً يباعد ما بين نفسه وبين موقفي فتح وحماس. وأصبح الأمر كما لو كان بين منظمة التحرير وحماس! وفي هذا السياق كتبت مقالات كثيرة وعرائض ربما أبرزها التي احتوت على تواقيع 300 شخصية بين سياسيين ومثقفين تطالب حكومة حماس بالاستقالة وتسليم السلطة لحكومة مستقلين مزودة بشبكة "أمان" لمدة سنة. وهو الأمر الذي رفضته حماس. وهو أمر في الحقيقة يعني مبايعة مفتوحة لحكومة قد تكون ممتازة، ولكن إذا لم تكن كذلك، فبوسعها التفريط دونما مسائلة!
وتوقفت محادثات حكومة الوحدة الوطنية، وارتفعت وتيرة الاتهامات وحتى التنابذ. وعاد الحديث عن ما يسمى "الحرب الأهلية" في بلد ليست بها مذاهب ولا اثنيات ولا قوميات، وليست خبيرة بالطائفية حتى اليوم.
ما معنى هذه المؤشرات المركبة؟ هل هي مطالبة حماس بالتخلي عن الحكومة طوعاً؟ نعم هي هكذا. ولكن إذا واصلت حماس كسب الثقة، هل سيتم اللجوء لنقل الإنقلاب من التراكم الكمي إلى التغير الكيفي؟ هذا ما تريده أميركا، وإسرائيل بلا موارية، وحكام عرب كثيرون. فهل يفعله فلسطينيون؟
No comments:
Post a Comment