Friday, September 4, 2009

ليبرمان يطوق مصر أفريقياً



ليبرمان يطوق مصر أفريقياً
عبد الباري عطوان


"لم يكن من قبيل الصدفة ان يبدأ افيغدور ليبرمان وزير الخارجية الاسرائيلي جولته الافريقية بزيارة اديس ابابا، العاصمة الاثيوبية، ولم تكن صدفة ايضا ان تشمل هذه الجولة دولتين أخريين تشكلان مع اثيوبيا المصدر الاساسي لمياه نهر النيل، وهما اوغندا وكينيا.
اسرائيل بدأت تدرك جيدا ان هناك حالة من التذمر في اوساط دول المنبع الافريقي لهيمنة دولتين عربيتين على الغالبية الساحقة من مياه النيل، هما مصر (55.5 مليار متر مكعب) والسودان (18.5 مليار متر مكعب)، اما ما تبقى، اي عشرة مليارات متر مكعب، فسيذهب الى ست دول افريقية على الاقل. وشهدت الاعوام الاخيرة مطالبات علنية بتعديل اتفاقيتي 1929 و1959 لتوزيع مياه النيل، خاصة الشق المتعلق منهما باعطاء مصر (دولة المصب) حق الفيتو على اي مشاريع سدود في اي من دول المنبع.
التركيز الاسرائيلي على اثيوبيا مهم لانها تقود التمرد على الاتفاقيتين المذكورتين اولا، ولان 86' من مياه النيل تأتي من مرتفعاتها، والاهم من كل ذلك الوجود العسكري الاسرائيلي المتعاظم في هذه الدولة التي باتت 'مخلب القط' الامريكي في القرن الافريقي، وتجلى ذلك واضحا في الفترة الاخيرة بارسالها قوات الى الصومال واحتلاله فعليا.
مياه النيل مسألة تشكل 'حياة او موتاً' بالنسبة الى مصر على مدى العصور، حتى ان حكومة محمد علي باشا (القرن التاسع عشر) وضعت خطة طوارئ للتدخل عسكريا ضد اي دولة يمكن ان تشكل اي خطر على تدفق مياه النيل، بينما دعا الرئيس الراحل محمد انور السادات خبراءه العسكريين لوضع خطة طوارئ عام 1979 عندما اعلنت اثيوبيا عن نواياها باقامة سد لري 90 الف هكتار في حوض النيل الازرق، وهدد بتدمير هذا السد، وعقد بالفعل اجتماعا طارئا لقيادة هيئة اركان جيشه لبحث هذه المسألة.
الاحصاءات الرسمية تقول انه في عام 2017 لن يكون لدى مصر الماء الكافي لمواجهة احتياجات مواطنيها المتفاقمة، حيث ستبلغ هذه الاحتياجات 86 مليار متر مكعب سنويا، بينما لن تتعدى جميع مصادرها 71 مليار متر مكعب، اي انها ستواجه عجزا مقداره 15 مليار متر مكعب.
الصورة ربما تبدو مأساوية بشكل اكبر اذا مضت اثيوبيا قدما في نواياها في اقامة سد على النيل الازرق، مصدر معظم مياه النيل، ويبدو انها مصممة على ذلك، واعلن وزير الري فيها انه لا توجد قوة في العالم تحول دون اقدامها على ذلك، فالمياه مياهها، ولا حق لأحد بان يملك 'الفيتو' ضد مشاريعها، وهدد بالانسحاب من معاهدة 1929 المذكورة.
' ' '
انها 'حرب المياه' الزاحفة علينا كعرب، بينما نحن نغط في نعيم المسلسلات الرمضانية وننشغل بتغطية موائد الرحمن، وتشكيل الحكومة اللبنانية، وجولات السناتور ميتشل، والخلافات بين حركتي 'فتح' و'حماس'، وكيفية ترتيب انتقال سهل لـ'التوريث' في مصر بمباركة امريكية ـ اسرائيلية مشتركة.
ليبرمان الذي هدد بقصف السد العالي واغراق الشعب المصري، يذهب الى القارة الافريقية على رأس وفد اسرائيلي كبير يضم ممثلين عن اكبر عشر شركات اسلحة اسرائيلية، علاوة على خبراء آخرين في شؤون المياه والاقتصاد وحرب العصابات.
بمعنى آخر يريد ان يعرض ليبرلمان على هذه الدول خدمات بلاده العسكرية لتعزيز قواتها المسلحة للتصدي لاي حرب يمكن ان تشنها مصر في المستقبل في حال اقدام هذه البلدان وخاصة اثيوبيا، على مشاريع لتحويل مياه النيل.
الدكتور بطرس غالي وزير الدولة المصري للشؤون الخارجية والمسؤول المباشر عن انحسار نفوذ بلاده في القارة الافريقية، تنبأ عام 1985 بأن الحرب القادمة في المنطقة ستكون حول مياه النيل، ولكن نبوءته هذه لم تصدق في حينها، لان ثلاث حروب اندلعت في المنطقة اولاها حرب الخليج الثانية (الكويت)، ثم الحرب في افغانستان، واخيرا حرب احتلال العراق، وكانت الحروب الثلاث تصب في خدمة اسرائيل، واضعاف العرب في المقابل، ربما تمهيدا لحرب المياه. وعلى اي حال كوفئ الدكتور غالي على نبوءاته هذه، وتخريبه للعلاقات العربية ـ الافريقية، جزئيا او كليا، بتولي الامانة العامة للامم المتحدة لاحقا.
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة هو عن رد الفعل العربي على هذا التغلغل الاستراتيجي الاسرائيلي في قارة كانت حتى نصف قرن مضى تعتبر بحيرة نفوذ عربية، ومصرية على وجه التحديد، تعتمد اعتمادا مباشرا على المنح الدراسية والخبراء الزراعيين والدعاة المصريين؟
الاجابة على هذا السؤال مخيبة للآمال، فتاريخ العرب الحديث في القارة الافريقية يتلخص في سلسلة من الكوارث الاستراتيجية، ابتداء من ازمة حلايب المفتعلة مع السودان (لماذا لم نسمع عنها بالمناسبة؟)، ومرورا بترك الصومال لمصيره الدموي، وانتهاء بالانشغال بدارفور عن اكبر مؤامرة تستهدف تفكيك السودان وطمس عروبته بل وهويته الاسلامية.
' ' '
الزعيم الليبي معمر القذافي الذي استثمر المليارات في افريقيا على امل ان يصبح زعيما لها انتابته حالة من الصحوة اخيرا، واعلن اثناء احتفالاته بالذكرى الاربعين لوصوله الى سدة الحكم ان اسرائيل تقف خلف جميع الصراعات في افريقيا، وطالب بقطع العلاقات الدبلوماسية معها.
ومن المفارقة ان دعوة الزعيم الليبي الغريبة هذه تأتي في وقت تستعد فيه دول عربية عديدة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية والتجارية مع اسرائيل بطلب امريكي مكافأة لها، اي لاسرائيل، على تجميدها الجزئي والمؤقت للاستيطان في الضفة الغربية.
التغلغل الاسرائيلي في افريقيا يستهدف مصر ومستقبل اجيالها، وضربها في خاصرتها الموجعة، اي مياه نيلها، ولكن المحيّر ان الحكومة المصرية منشغلة بمعبر رفح، وخلية حزب الله، والخطر الايراني المزعوم.
الرئيس حسني مبارك، الذي من المفترض ان يقود تحركا معاكسا لتطويق هذا المخطط الاسرائيلي، تغيّب عن القمة الافريقية الطارئة التي انعقدت في طرابلس لبحث النزاعات الافريقية، ولم يشارك ليبيا احتفالاتها بالتالي لاسباب ما زالت مجهولة، فهناك من يقول انها اسباب مرضية، وهناك من يذهب الى ما هو ابعد من ذلك، ويؤكد انه قاطع القمة والاحتفالات التي تلتها حتى لا يصافح امير دولة قطر. فأين قطر الصغرى من مصر العظمى، وماذا لو صافح اميرها او حتى لم يصافحه، فمصالح مصر الاستراتيجية من المفترض ان تتقدم على كل الصغائر.
المحللون الافارقة يقولون ان اسرائيل تعرض عليهم خبرات زراعية، ووعوداً بمساعدتهم للحصول على منح مالية امريكية واوروبية لما لها من نفوذ كبير هناك، وفوق هذا وذاك اسلحة حديثة ومتطورة وخبراء يتولون تدريب جيوشهم على حروب العصابات، فماذا عند العرب لكي يقدموه غير الفساد والتخلف والهزائم؟
الرد على ذلك بسيط، وهو ان الخبرات الزراعية والعسكرية يمكن الحصول عليها من مصادر اخرى غير اسرائيل، ولكن الشق الثاني صحيح، وهو اننا كعرب لم يعد لدينا ما نقدمه غير الخبرات العريقة في اهدار الثروات النفطية الهائلة، والخنوع للأعداء، والتآمر على بعضنا البعض.
"

No comments: