Monday, July 5, 2010

محنة أبو الغيط


محنة أبو الغيط
عبد الحليم قنديل

"ربما تكون من المصادفات الموحية أن شخصا كأحمد أبو الغيط يشغل منصب وزير الخارجية المصري، فالرجل يبدو دبلوماسيا متواضع الموهبة، وتصريحاته الخشنة ـ أحيانا ـ لا تعكس فوائض نشاط، بل تعكس ضعفا خائرا في السياسة التي يعبر عنها، وتعكس تضاؤلا متزايدا فى دور وزارة الخارجية، وتعكس تآكلا مخيفا في الدور المصري، وإلى حد جعل مصر ـ التى كانت مقتدرة ـ كأنها إمارة موناكو أو دولة موزمبيق.
آخر أزمات أبو الغيط كانت مع محمود الزهار القيادي البارز في حركة حماس، وصدرت بيانات حامية عن وزارة أبو الغيط، وتصريحات أسخن عن المتحدث الرسمي باسمه السفير حسام زكي، تحمل على حماس في نبرة حربية، وتهددها بالويل والثبور وعظائم الأمور، وليس لسبب ظاهر، إلا لأن الزهار قال الحقيقة التي يعرفها القاصي والداني، وهي أن أبو الغيط ووزارته لا علاقة لها بالتعامل مع الفلسطينيين، وأن الملف الفلسطيني في يد جهة مصرية أخرى لم يسمها الزهار، وإن كان الكل يعرف أنها المخابرات المصرية وعميدها اللواء عمر سليمان، فهي التي اعدت ورقة المصالحة بين فتح وحماس، وهي التى تدير الحوارات، وهي التي تلتقي المسؤولين في رام الله وفي غزة، وهي التى توفد المسؤولين والصحافيين في مهمات خاصة، وعميدها اللواء سليمان هو الذى يلتقي المسؤولين الإسرائيليين، ويجري المباحثات معهم، ومقعده دائما قريب من مقعد الرئيس مبارك في أي لقاء مع مسؤول فلسطيني أو مسؤول إسرائيلي.
وسحب الملف الفلسطيني من وزارة الخارجية له مغزى كبير، فالقضية الفلسطينية ـ أيا ما كانت تباينات الرأي فيها ـ تمثل نصف مهمة وزارة الخارجية المصرية، وهو ما يعني أن أحمد أبو الغيط - بدون الملف الفلسطيني ـ صار نصف وزير، ثم أن احدا لا يريد أن يبقى النصــــف الآخر للسيد الوزير، فملــــف السودان ومياه النيل انتقل هو الآخر، وملــــف العلاقة مع الليبيين كــــذلك، ومن باب أولى ملف العلاقة مع الأمـــريكيـــين الذي يخـــــتص به مبارك لنفسه، والمحصلة: أن أبو الغيط صار أقرب إلى وزير تشريفات دبلوماسية، وربما ذلك ما يجعله عصبيا أكثر من اللازم، ويورطه في تصريحات عبث من نوع تعهده بكسر أرجل الفلسطينيين.
وللحق، فإن القصة تنطوى على ما هو أكبر من محنة رجل كأبو الغيط، يفقد وظيفته عمليا، ويستحق لقب وزير الخارجية المقال، ويتسلى بالكلام في الوقت الضائع، ويدخل في منافسة بائسة مع المتحدث باسمه حسام زكي، والذي صار عنوانا على أعجب التصريحات في التاريخ الدبلوماسي، وقد تصادف أن التقيت ـ برفقة نواب من المعارضة المصرية ـ مع اثنين من مساعدي وزير الخارجية، كنا في آخر نهار بدأ صباحه بالعدوان الاسرائيلي الهمجي على سفن أسطول الحرية، وكان الخبر وقتها، أن وزارة الخارجية المصرية استدعت السفير الاسرائيلي بالقاهرة لتأنيبه، وكان قد مر على الحدث ساعات، ولم يكن مساعدا وزير الخارجية يعلمان بالضبط أين تم هذا اللقاء والاستدعاء، ومن التقاه بالضبط، وكان أبو الغيط بدوره لا يعلم، كان في سفر خارج البلاد، وكان المغزى ناطقا، فمبنى وزارة الخارجية الانيق على كورنيش النيل هو آخر من يعلم.
إذن، فقد جرى تغييب وزارة الخـــارجية، وليس أحــــمد أبو الغيط وحده، جرى التفريغ من الدور، فليس من مـــهمات كبرى، ولا من صياغة لبدائل، ولا من مهام مميزة لدبلوماســيين كبار، والوزارة تحولت إلى ديوان موظـــفين، يعين ويرقى وينتدب، ويتلقى رسائل تذهب إلى جهات أخرى خارج الوزارة، وكأنه قد تم التواطؤ على أنه لا حاجة فعلية لوزارة خارجية ولا لوزير خارجية، وعلى تغطية الفراغ بأي كلام، فملفات الوقت ليست فى وزارة الخارجية، بل فى جهات خفية، أقيلت الوزارة من دورها، ولم يبق لها سوى التفرغ للتعامل مع موظفيها، تعاقب هذا، وتقرب ذاك، فيما ينصرف الموظفون عن حقائب المهمات الدبلوماسية لحقائب من نوع آخر، ويتسابقون إلى نوع من «الخصخصة المجازية» للوظائف، ويعدون عملهم في هذا البلد أو ذاك مجرد فرصة شخصية، فلم تعد الأولوية لرعاية سياسة ما، بل الأولوية لاسستثمار الفرص، وتكوين دوائر استثمار خاصة، ونيل ترقيات طبقية تجعلهم فى سلك المليونيرات، وقبل أن ينقضى ما تبقى من العمر الدبلوماسي.
ومحنة وزارة الخارجية ووزيرها فرع من أصل محنة الدور المصري، فلم تعد لمصر الرسمية سياسة تخصها، بل سياسة على طريقة الانتداب لدور، سياسة على طريقة الوسيط الذى يطلب أجره قبل أن يجف عرقه، سياسة بالوكالة، تماما كما هو الحكم في مصر بالوكالة، سياسة بأولويات غير مصرية، وبأولويات أمريكية وإسرائيلية تحديدا، وحين تتصادم الأولويات الأمريكية ـ الإسرائيلية مع الأولويات المصرية، تكون الغلبة دائما للأولى، خذ عندك ـ مثلا ـ قصتان لهما مغزى مفزع، القصة الأولى على جبهة السودان، وهي موثقة فى مضابط البرلمان المصري، وملخصها اتفاق رسمي مصري ليبي سوداني جرى في أواخر الثمانينيات من القرن الماضي، جرى الاتفاق على مزرعة قمح هائلة بملايين الفدادين في السودان، وبعمالة وخبرة مصرية، وبتمويل ليبي، وحين جاء أوان التنفيذ، تراجعت مصر الرسمية، ولم يخجل وزير الزراعة المصري الأسبق الشهير يوسف والي من التصريح بالسبب، وقال الحقيقة ببساطة، وهي أن أمريكا اعترضت على المشروع، وهكذا راحت الفرصة في خبر كان، رغم أن مصلحة مصر في مزرعة القمح يفترض بديهيا أنها فوق كل اعتبار، لكن البداهات المصرية سقطت تحت أقدام البداهات الأمريكية، والتى لا تريد لمصر خلاصا من أزمات مزمنة تبقيها في القيد، وتجعل واشنطن سيدة القرار في القاهرة، وعلى جبهة الشرق - بعد جبهة الجنوب ـ كانت القصة الثانية، والتي طويت فصولها قبل أربعة أعوام من الآن، كان قد جرى اتفاق رسمي مصري سعودي على إنشاء جسر بري فوق خليج العقبة، وعلى أن تمول السعودية تكاليف الإنشاء، وحين جاء أوان التنفيذ، تراجع مبارك علنا، وبصورة هستيرية، وبدعوى أن الجسر سيؤدي لتلويث البيئة السياحية في مدينة شرم الشيخ، رغم أن الجسر كان مقررا له أن ينتهي على الجانب المصري بعيدا جدا عن شرم الشيخ، وإلى الجنوب والغرب منها بعشرات الكيلومترات، وتوقف المشروع لأن اسرائيل أرادت ذلك، فمشروع الجسر ـ على بساطته ـ يؤدى الوظيفة العكسية لوجود اسرائيل ذاتها، ويقيم اتصالا بريا مباشرا يربط مصر بشرق العالم العربي، ومصلحة المصريين في المشروع أظهر من أن تحكى، فالمصريون هم الذين يستفيدون بالانتقال البري السريع إلى السعودية، ولأغراض دينية وتجارية واقتصادية، ويرفع الجسر عنهم أعباء التنقل المكلف بالطائرات، وهواجس الموت المحدق فى السفر بالعبارات المتهالكة، ورغم وضوح وبداهات المصلحة المصرية، فقد كان موقف مبارك على العكس تماما، وأقرب إلى طاعة وأولوية البداهات الإسرائيلية، وبدواعي حفظ مصلحته الشخصية
- ومصلحة عائلته - بالبقاء في قصر الحكم.
وفي المثالين ما يكفي للتدليل على محنة الدور المصري، ومحنة وزارة الخارجية التي يفترض أنها ذراع الدور، فليس من أولوية للمصلحة المصرية المباشرة، ولا من مراكز لصنع سياسات، ولا من مهام دبلوماسية خاصة، ولا من حاجة لدبلوماسيين كبار، وربما لذلك نجد السفارات المصرية فى الخارج على حالها المثير للأسى، فالمصريون آخر من يهمها، والشواغل شخصية بحتة، والمباني ضائعه في السكون، والسبب المفهوم، فقد ضاع الدور في المركز، وضاع الدور في الأطراف، واتصل الخواء فى الداخل بالغياب في الخارج، وصرنا بصدد بلد استقال من دوره، ووزارة أقيلت من وظائفها، ووزير يحارب طواحين الهواء على طريقة أحمد أبو الغيط.
"

No comments: