Thursday, November 23, 2006

تدشين عهد جديد: الرماية المباشرة

جوزف سماحة

يشيّع، اليوم، بيار أمين الجميل. تدلّ المؤشرات على أن التشييع سيكون شعبياً وحاشداً. هذا ما" قرّرته القوى السياسية للأكثرية الحاكمة. القرار، في جوهره، هو العودة إلى امتلاك الشارع وإطلاق دينامية جديدة. سيتناسى أقطاب هذه الأكثرية أنهم تولّوا، في الأسابيع الأخيرة، التحذير من «النزول إلى الشارع». سيقولون، وهم على حق، إن التحذير كان خوفاً من وقوع شغب، ولكن بما أن جريمة حصلت، فإن السكوت عنها لم يكن ممكناً. يمكنهم أن يضيفوا أنهم أرفقوا دعوتهم بالتشديد على الطابع السلمي والحضاري للتحرّك، ولكن هذا، بالضبط، ما كان يقوله خصومهم على التظاهرات المؤجلة (إلى متى؟).
رهان الأكثرية على التشييع كبير. إن جانب التظاهرة فيه مخصص لفرض جدول أعمال لا علاقة له بذلك الخاص بجلسات التشاور. والقصد هو البرهان، عبر استفتاء شعبي، على أن ما تطالب به المعارضة يفيض كثيراً عن حجم تمثيلها.
لا مبالغة في القول إن ما سيحصل، اليوم، شديد الأهمية. إنها واحدة من المرات النادرة التي يشهد فيها «الشارع» نزولاً كثيفاً من فئة كبيرة من اللبنانيين موجّهاً ضد فئة أخرى كبيرة. من يشك في ذلك فعليه مراجعة عدد وافر من التصريحات والبيانات الصادرة عقب جريمة اغتيال الجميل. الاتهام مباشر للطرف «المستفيد من قتل وزير في حكومة ثمة إصرار على إسقاطها». والاتهام الأوضح هو ما ورد في ختام اجتماع البيت المركزي في الصيفي حيث إن «القتلة هم من فصيلة الذين هدّدوا بقلب الحكومة للهروب من عدالة المحكمة». وإذا كان صحيحاً أن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة هو أكثر الناطقين باسم الأكثرية نضجاً فإنه ارتكب «خطيئة النسيان». لقد ناشد الشهيد بيار الجميل أن يسلّم له على من سبقه من شهداء «افتدوا وطناً»، وفاته أن يذكر، بين الشهداء، ما يزيد على ألف لبناني قتلهم العدوان الإسرائيلي. ألم يفتد هؤلاء وطناً؟ أم أن شهداءنا في الجنّة وقتلاهم في النار؟
القول إن تظاهرة اليوم موجّهة ضد فئة من اللبنانيين لا يلغي إطلاقاً أن الفئة المشار إليها لو تظاهرت حسب ما كانت تعدّ لكانت تحركاتها، هي الأخرى، موجّهة ضد فئة من اللبنانيين. وهنا، أيضاً، يمكن القول إن التمهيد لهذا «النزول إلى الشارع» سبقته اتهامات لا تقل قسوة عمّا سمعناه خلال اليومين الماضيين. يمكن المواطن أن يكون مع هذا الرأي أو ذاك، ولكن عليه الإدراك أنه يقف في مواجهة شطر مهمّ من مواطنيه.
لنعد بالذاكرة إلى تظاهرتي 8 و14 آذار. إن ما نحن عليه اليوم يجعلنا نعتقد أن تلك الأيام كانت أيام «وحدة وطنية». إن التدقيق في الشعارات التي رفعت، وفي الكلمات التي ألقيت، وفي الأعلام التي انتصبت، إن هذا التدقيق يدفعنا إلى ملاحظة الطريق التي قطعناها نحو المزيد من الانقسام أو، بالأحرى، نحو المزيد من تبلور الانقسام. في ذلك الزمن، الذي يبدو غابراً، كان التلميح بديلاً من التصريح، وكانت الإشارات المواربة بديلة من الاتهام الواضح، وكان القادة أكثر تحفّظاً من جمهورهم، وكان يمكن الرهان على توسيع قواسم مشتركة. لم نعد اليوم في مثل تلك الحالة.
لقد انتقل اللبنانيون من السجال الضمني إلى حقل الرماية المباشرة، وترافق ذلك مع اشتداد التجاذب حول لبنان ومع ازدياد الميل لدى كل طرف لاتهام الآخر بأنه حاضن لمسلسل جرائم أو لخيانة.
النسيج الوطني يعاني الكثير. وينعكس ذلك فوراً على قيم وبرامج وتعريفات للهوية والموقع ومعنى الوطن. وتتعرض المؤسسات للطعون. رئاسة أولى مشكوك فيها. حكومة تعاني خللاً. مجلس نيابي يحاول إنقاذ ما يمكن إنقاذه بالرغم من الظروف الملتبسة لتشكّل الأكثرية والأقلية فيه. إنه المجلس النيابي نفسه الذي سيكون معرّضاً، خلال أيام، لامتحان قاس.
ستجد الأكثرية نفسها، بغضّ النظر عن النجاح في الامتحان الشعبي اليوم، مضطرة إلى مخاطبة رئيس المجلس نبيه بري. إنها محكومة بذلك لأن البرلمان هو الممر الإجباري لإقرار المحكمة الدولية ونظامها، حتى في حال القفز فوق رئاسة الجمهورية ومخالفة الدستور. إلا أن بوادر مخاطبة بري تحمل مخاطر واضحة لأنها تتضمّن ما قد يعدّه نوعاً من الإملاء، أي نوعاً من دعوته إلى دور يتناقض مع ما قد يكون استخلصه من دروس مرّة من تجربة التشاور.
إن ما تفعله قوى الأكثرية في إلقائها تبعة الجريمة الأخيرة على لبنانيين هو، في العمق، توفير الشروط التي تجعل مهمة بري مستحيلة، أو على الأقل، في منتهى الصعوبة. إلا أنها تقدم على ذلك غير مبالية وغير معنية بأنها إذ توجد تماهياً بين طلب تأليف حكومة وحدة وطنية والمشاركة في اغتيال بيار الجميل، فإنها تطلب من «القاتل» بري (ما دام مؤيداً لحكومة وحدة وطنية) أن يساعد في تسليم نفسه إلى العدالة!
القصد من هذه الإشارة القول بأن الأكثرية النيابية والحكومية ستعاود الاصطدام بالتوازنات الفعلية في لبنان، سواء في بعض المؤسسات أو في «الشارع». وهي تخطئ إذا واصلت الاعتقاد بأن في إمكانها إنهاض سلطتها على انكسارات تصيب خصومها. فكيف إذا كانت هذه الانكسارات مؤقتة، وأكثر من ذلك، وهمية؟
"

No comments: