ما إن سارت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية بضع خطوات، بعد أن قررت المضيّ في خيار السلام المنفرد، بموجب النموذج المصري، حتى وقعت في الفخ. فهي ليست دولة احتلت أراضيها، وتفاوض على حدود، وانسحاب مقابل اعتراف، بل هي ممثل لشعب صاحب قضية، يمكنها أن تتفاوض مع العدو حول حلول لهذه القضية، فقط إذا سلّم الأخير بعدالتها. وفي حالة الشعب الفلسطيني، لم يسلّم العدو بعدالة القضية، بل اشترط التخلي عن عدالة القضية، خطاباً وفكراً، وعن المقاومة المرتبطة شرعيتها بهذه العدالة (فلا مقاومة شرعية من دون قضية عادلة)، وكل هذا في مقابل الحصول على سلطات بدون سيادة، وظيفتها الرئيسية حفظ الأمن في ظل الاحتلال.
ومنذ أن قبلت القيادة الفلسطينية بهذا المسار "لإنقاذ ما يمكن إنقاذه"، تحوّلت من حركة تحرّر وطني إلى كيان سياسي بدون سيادة، عليه واجبات الكيانات السياسية تجاه الآخرين، من دون حقوقها. وأصبح ميزان القوى، وليس عدالة القضية، حكماً بين طرفين متوازيين متكافئين افتراضاً. وقد سمحت موازين القوى للطرف الأقوى بالتنصّل، حتى من تنفيذ الاتفاقيات غير العادلة هذه، وتكثيف الاستيطان في ظل الاحتلال.
لم تتغيّر موازين القوى من خلال المعادلة التفاوضية هذه. وجرت كل محاولات تغييرها بالخروج عليها، سواء في الانتفاضة الثانية (التي انقسمت القيادة الفلسطينية حولها، وأدى هذا الانقسام إلى استفراد إسرائيل والولايات المتحدة بياسر عرفات) أو في المقاومة المسلحة، أو في خطوات المقاومة المدنية، مثل حملة المقاطعة، وغيرها من الاستراتيجيات الواعدة التي ما زالت قيد التبلور.
أصبح التفاوض من أجل التفاوض خياراً عبثياً. إنها المفاوضات العبثية، وليس المقاومة العبثية. ووصلت المفاوضات العبثية، برعاية أميركية، إلى حد المهزلة في "عجز" الإدارة الأميركية المزعوم في عصر أوباما، وزيارات كيري المسرحية المشبعة بالنفاق والكذب. فقد كان معروفاً أن رئيسه تركه يقوم بها، وهو يعرف أنها مجرد تمثيلية للحفاظ على "العملية" (ما تسمَّى زوراً وبهتاناً بعملية السلام). فجرت محاولات متردّدة لاتخاذ خطوات تتجاوز معادلة المفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية المقسومة على صفر، ونتيجتها ما لا نهاية له من العقم، بإخراج القضية من جديد إلى الساحة الدولية.
وتضمّن الخروج المتجدّد إلى الساحة الدولية تعبيرات خجولة عن تململ من جمود في المفاوضات الثنائية، برعاية أميركية، دام حوالي العقدين، من دون تقدم، فمَن يدري قد تُحرج أميركا وتعد بشيءٍ ما، مثلما أمل ذلك البائس المحكوم بالإعدام أن ينطق الحصان. ولكن أميركا لا تخجل ولا تحرج. ومع أن أوباما ووزير خارجيته يمقتان نتنياهو، لأنه يذلّهما بإملاءاته، ويذكّرهما بعجزهما أمامه، إلا أن أميركا تطالب بتفريغ مشروع القرار من مضمونه، لكي لا تستخدم حق الفيتو. لقد هرب المفاوض الفلسطيني من "الدلف الإسرائيلي إلى المزراب الأميركي".
مثل هذا الخروج إلى الساحة الدولية يفيد، إذا جرى بنَفَسٍ نضاليٍ يهدف إلى تغيير موازين القوى، ولو كان ذلك معنوياً، فإنه يأتي بنتائج مادية، على نمط نضال المقاطعة ضد الأبارتهايد، على سبيل المثال، لا الحصر.
ولكن القيادة الفلسطينية عادت إلى الساحة الدولية بعقلية المفاوضات الثنائية، مع الفرق أنها تفاوض أميركا وليس إسرائيل. وقد تقودها هذه المفاوضات إلى تنازلات في مسائل، هي في صلب قضايا الحل الدائم المؤجلة، وذلك ليس من أجل حل عادل، بل من أجل قرار دولي. ونعرف، جميعاً، أن هذا القرار لن ينفَّذ في موازين القوى الإقليمية والدولية الراهنة. وهذا يعني مكانك عد! ولكنها عودة إلى المكان، بعد تنازلات في صلب عدالة القضية، ومن دون تحقيق حل دائم.
إنجاح مفاوضات من دون جَسْر الهوّة في المواقف بين "الطرفين" من جهة، ومن دون تغيير موازين القوى بينهما من جهة أخرى، يعني التوصل إلى تخريجات لغوية لغرض الصياغة من دون أن يسود توافق على تفسيرها، فضلاً عن تطبيقها.
الخروج إلى الساحة الدولية، بما في ذلك ساحات المنظمات الدولية، مفيد، بشرط أن يكون خروجاً بعقلية مختلفة عن عقلية التفاوض التي استحوذت على القيادة الفلسطينية، أي إذا كان خروجاً نضالياً، يحمل برنامجاً تحررياً، يطالب بمقاطعة نظام الاحتلال ونظام الفصل العنصري، وتعود فيه حركة تحرر فلسطينية إلى النضال على مستوى المجتمع الدولي ببرنامج سياسي ديمقراطي، سلاحه عدالة القضية وظلم الاحتلال، وترافقه أنماط متنوعة من مقاومة الاحتلال.
No comments:
Post a Comment