Link
لكل ثورة خريف، بما فيها الثورات المضادة. وقد حملت الأسابيع الماضية مؤشرات ودلالات تشي بأن الثورات المضادة تعيش، اليوم، مأزقاً حقيقياً، وربما تكون قد دخلت في مرحلة "الخريف". وما عاشته المنطقة العربية، في العامين الأخيرين، يكشف أن معركة التغيير لا تزال طويلة، على الرغم من محاولات التعطيل والإجهاض المتواصلة، وأن الحسم لا يبدو ماثلاً في الأمد المنظور.
فمن جهة أولى، لا تصب التحولات الإقليمية المتسارعة في صالح القوى التي سعت، ولا تزال، إلى وقف "الربيع العربي" وإجهاضه. وقد أشرنا إلى بعض هذه التحولات في مقال سابق، والتي ربما قد تؤدي إلى إعادة تشكيل المواقف والتحالفات التكتيكية في المنطقة. ومن جهة ثانية، لم تحقق الثورة الإقليمية المضادة أياً من أهدافها حتى الآن. وللتذكير، تمثلت هذه الأهداف في وقف دعوات التغيير في المنطقة، وإقصاء قوى الإسلام السياسي وتحقيق الاستقرار من خلال الإقصاء والقمع. فعلى الرغم من تراجع الأصوات المطالبة بالتغيير في المنطقة، بسبب القمع أو الإحباط وخيبة الأمل، إلا أن ثمة شعوراً عاماً بأنه لا مناص من التغييرواستكمال ما بدأ قبل أربع سنوات، وأن الثمن الذي دُفع لا يجب أن يضيع هدراً. في حين صمد الإسلاميون، على الرغم من محاولات القمع والاستئصال التي يتعرضون لها، ولا يزالون رقماً صعباً في المعادلات المحلية والإقليمية. في الوقت الذي تعم فيه المنطقة فوضي عارمة، ولا يوجد أي استقرار حقيقي في البلدان التي أصابها "الربيع العربي"، ولن يكون هناك سبيل لوقفها، في ظل استمرار الخيار الأمني. ومن جهة ثالثة، يبدو أن الغرب أصبح على قناعة بأن الأنظمة السلطوية العربية المناهضة للتغيير باتت عبئاً عليه، وأن من الخطأ الانصياع لها، أو مجاراتها في مغامراتها الداخلية والإقليمية. وهو ما بدا بوضوح في الحالة المصرية التي رفض فيها المجتمع الدولي الانصياع للنظام المصري وداعميه، فيما يخص الوضع في ليبيا.
ما حدث في الأسابيع الماضية، أعاد خلط الأوراق في المنطقة، ودفع بأطراف الثورة المضادة إلى إعادة تقييم مواقفها وعلاقاتها ببعضها. فعلى سبيل المثال، يبدو أن العلاقات بين النظام المصري الحالي وبعض داعميه في الخليج لم تعد كما كانت عليه قبل شهور، خصوصاً بعد فضيحة التسريبات الأخيرة التي كشفت حجم ازدراء الجنرال عبدالفتاح السيسي واحتقاره
يبدو الصراع بين الثورة والثورة المضادة أكثر وضوحاً في الحالة اليمنية. فبعد شهور من التحالف بين جماعة الحوثيين وبقايا نظام الرئيس اليمني السابق، على عبدالله صالح، والذي سعى إلى إجهاض الثورة اليمنية والاستيلاء على السلطة، انقلبت الأوضاع بعد خروج الرئيس عبدربه منصور هادي إلى عدن، وإعلانه رفضه الانقلاب الحوثي. ويبدو أن ثمة تقارباً بين السعودية والأطراف المناهضة للحوثيين داخل اليمن، وفي مقدمتهم تكتل اللقاء المشترك، وفي القلب منها "التجمع اليمني للإصلاح" المحسوب على جماعة الإخوان المسلمين، والذي زار وفد منها المملكة قبل أيام.
ولعل ما يزيد الأمر تعقيداً تداخل المحلي مع الإقليمي. فالأوضاع في مصر واليمن وسورية وليبيا لم تعد محصورة داخل هذه البلدان، وإنما متداخلة مع بعضها، ما يتطلب قدراً عالياً من الحكمة والذكاء في بناء التحالفات وتحديد المواقف. فقد تخيل الجنرال السيسي أن في مقدوره استنساخ النموذج المصري في ليبيا، وهو ما رفضته، ليس فقط الدول الكبرى، وإنما أيضا دول إقليمية أخرى مهمة، كتونس والجزائر. كما أن عدم قدرة دول التحالف على حسم الصراع مع تنظيم الدولة "داعش"، يكشف، من جهة، مدى محدودية الخيار العسكري، أو الأمني، في التعاطي مع مثل هذه التنظيمات المتوحشة، ويؤكد، من جهة أخرى، الحاجة إلى قوى معتدلة، يمكنها تحقيق قدر من التوازن الاجتماعي والفكري مع هذه التنظيمات.
بكلمات أخرى، يخطئ من يظن أن المعركة أو الصراع بين ثورات الحرية والثورات المضادة قد حُسم، أو انتهى، لصالح هذه الأخيرة. بل على العكس، دخل الصراع مرحلة جديدة من خلط الأوراق والحسابات. وهي معركة لن ينتصر فيها إلا من ينحاز لطموحات الناس وآمالهم ورغبتهم في العيش بمجتمعات تقوم على الحرية والعدالة والكرامة الإنسانية.
No comments:
Post a Comment