المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات
مضى رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قدمًا في تحديه الرئيس الأميركي، باراك أوباما، وخاطب جلسةً مشتركةً لمجلسي الكونغرس، النواب والشيوخ، داعيًا إلى رفض اتفاق يسعى البيت الأبيض إلى التوصل إليه مع إيران، حول برنامجها النووي. وكان رئيس الأغلبية الجمهورية في مجلس النواب الأميركي، جون بينر، قد وجّه دعوةً إلى نتنياهو، مطلع العام الجاري، لمخاطبة الكونغرس، حول مخاطر اتفاقٍ محتملٍ مع إيران. وقد قبل نتنياهو الدعوة من دون التشاور مع البيت الأبيض، وهو ما عُدَّ إهانة للرئيس.
وكما كان متوقعًا، أثار خطاب نتنياهو في الكونغرس عاصفةً من الجدل السياسي في واشنطن، ليس بشأن مقاربة الإدارة الأميركية للملف النووي الإيراني، والخلاف مع إسرائيل حولها فحسب، بل تعداه إلى الحديث عن طبيعة العلاقات الأميركية - الإسرائيلية ومستقبلها. وكان لافتًا أنه، بالتوازي مع رفض أوباما، أو أعضاء إدارته، مقابلة نتنياهو، على خلفية أن زيارته تأتي قبل أسبوعين من الانتخابات الإسرائيلية، قاطع نحو ستين عضوًا ديمقراطيًا في الكونغرس، من ضمنهم يهود، الخطاب، وهو تطور غير مسبوقٍ في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية، مع الأخذ في الاعتبار أنّ الكونغرس الأميركي يُعَدّ أكثر جهات السلطة الأميركية تأييدًا وانحيازًا لإسرائيل.
التطمينات لا تخفي أزمة العلاقة
لم تفلح جميع عبارات المجاملة التي استدعاها الطرفان، الإسرائيلي والأميركي، في إخفاء حقيقة التوتر في العلاقة بينهما؛ فقد بدأ نتنياهو خطابه بالإشادة بالعلاقة الوثيقة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل، والتي بقيت "دومًا فوق السياسة، وينبغي أن تبقى دومًا فوق السياسة". ولم ينس نتنياهو أن ينوّه بما قدّمه أوباما لإسرائيل من مساعدات "معلنة وغير معلنة"، على مدى السنوات الست المنصرمة من رئاسته. وردّ أوباما على ذلك بالتذكير بأنّ علاقة الطرفين "غير قابلة للكسر"، كما دعا الكونغرس الى الاستمرار في دعم إسرائيل، وتقديم المساعدات اللازمة لتمكينها من حماية نفسها، غير أنّ التصريحات عن متانة العلاقة وعرى التحالف الذي لا ينفصم، حولتها تصرفات نتنياهو إلى عبارات جوفاء؛ ففي خطابه أمام الكونغرس، بذل نتنياهو جهده في تفنيد ذرائع إدارة أوباما في سعيها إلى التوصل إلى اتفاقٍ مع إيران حول برنامجها النووي، ومن ثمّ نسف جهدها في هذا السياق. كما رفض نتنياهو دعوةً من أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس للاجتماع بهم على انفراد، مخرجاً نفسه من حرج تهديد بعضهم بمقاطعة كلمته، ما أدى فعلًا إلى مقاطعة عديد منهم الكلمة، احتجاجًا على الإهانة التي ألحقها برئيسهم.
أما الإدارة الأميركية، فقد انطلق موقفها من اقتناعٍ مفاده بأنّ شعور أي رئيس حكومة إسرائيلي أنّ في وسعه تحدي الإدارة الأميركية في قلب عاصمتها، وعلى منصة الكونغرس، يشير إلى خللٍ كبيرٍ في العلاقة بين الطرفين. فإسرائيل، ومهما كانت أواصر تحالفها القوي مع واشنطن، تبقى دولة أجنبية، ولا ينبغي لحزب أميركي أن يستقوي بها على حزب أميركي آخر. وهذا ما عبّرت عنه مستشارة الأمن القومي الأميركي، سوزان رايس، بقولها، تعليقًا على قبول نتنياهو دعوة بينر، إنّ هذه الزيارة "هدامة لنسيج العلاقات بين البلدين"، وأضافت إنّ دعوة بينر نتنياهو قبل أسبوعين من الانتخابات الإسرائيلية "أضفت نوعًا من الحزبية" على علاقةٍ، يريدها أوباما "من دون شك قوية، وغير قابلة للتغيير، بغض النظر عن الأجواء السياسية في البلدين".
لكنّ هذا المنطق يعدّ دليلًا، بحد ذاته، على طبيعة الخلل في العلاقة الأميركية - الإسرائيلية؛ فهناك دلالات كثيرة لاضطرار الرئيس إلى الدفاع عن سياسةٍ، يتبناها في وجه انتقادات زعيم دولة أجنبية يطلقها من قلب عاصمته، وبدعم حزب المعارضة. فإسرائيل وزعماؤها يتعاملون مع الولايات المتحدة كأنها فضاء مفتوح لهم، من دون ضوابط.
نتنياهو - أوباما: علاقة صعبة
منذ وصوله إلى البيت الأبيض مطلع عام 2009، تميّزت العلاقة بين أوباما ونتنياهو بالتوتر والتنافر، وزادها سوءًا تصرفات نتنياهو التي وصلت إلى توجيه إهانات بالغة لأوباما، من دون خشية من أي تداعيات، ومنها:
• أفشل نتنياهو بشكل واضح جهد الوساطة الأميركية في المفاوضات الفلسطينية -الإسرائيلية، بما في ذلك جولات وزير الخارجية، جون كيري، الأخيرة، عبر الإصرار على تكثيف الاستيطان. ولم يعد أوباما يثق به. ومع ذلك، لم يقم الأخير بأي خطوة تتضمن نوعًا من التعبير عن عدم الرضى، فضلًا عن الضغط على إسرائيل بصورة فعلية.
• أثناء زيارة نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، إلى إسرائيل في مارس/آذار 2010، فاجأته حكومة نتنياهو بالإعلان عن عطاء لبناء 1600 وحدة سكنية في القدس الشرقية؛ ما اعتبرته الولايات المتحدة، حينئذٍ، إهانة لنائب الرئيس الذي كان في زيارة لدفع عجلة المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية، وللضغط على إسرائيل لتجميد بناء المستوطنات.
• ألقى نتنياهو خطابًا في الكونغرس، في مايو/أيار 2011، بدعوة من قيادة الحزب الجمهوري، وتحدى فيه الرئيس أوباما وطرح لاءات كثيرة تعارض إدارته. وكان الفارق بين خطابي 2011 و2015 أنّ أوباما التقى نتنياهو في المرة السابقة، في حين رفض مقابلته، هذه المرة، بحجة عدم التأثير في نتائج الانتخابات الإسرائيلية المقبلة، كما أنّ أعضاء الحزب الديمقراطي كلهم حضروا خطاب نتنياهو عام 2011، في حين قاطع خطابه، هذه المرة، نحو ستين عضوًا، كما أسلفنا.
• كسر نتنياهو الأعراف الدبلوماسية في أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة عام 2012، عندما تدخل لمصلحة المرشح الجمهوري، ميت رومني، ضد أوباما.
• لم تكتف حكومة نتنياهو، في العام الماضي، بإفشال جهد وزير الخارجية جون كيري لإحياء عملية السلام والتوصل إلى اتفاق إطار فلسطيني - إسرائيلي في موعد أقصاه إبريل/نيسان 2014. بل تهجّم المسؤولون الإسرائيليون أيضًا على الوزير الأميركي شخصيًا، واتهموه بأنّ همّه يتركّز على الحصول على جائزة نوبل للسلام على حساب إسرائيل.
ومع ذلك كله، لم يمارس أوباما أي ضغط على حكومة نتنياهو، ولم يتخذ أي خطوة ضدها. والجديد، في الحالة الأخيرة، أن نتنياهو قام بخطوة سافرة للضغط على إدارة أوباما، وإحراجها علنًا في عقر دارها. وبناء عليه، لم تكن الإهانة الأخيرة التي وجهها نتنياهو لأوباما، ووصفها مسؤول رفيع في البيت الأبيض بأنها "بصقة في وجهنا على رؤوس الأشهاد"، إلا حلقة في سلسة طويلة لم تبلغ مداها بعد. فما دامت نسقية العلاقات الأميركية - الإسرائيلية على حالها، وما دامت إسرائيل غير عابئة بأي ردّ أميركي محتمل على إهاناتها المتكررة، فإنّ حكومة نتنياهو لا تشعر بأي داعٍ لتغيير سلوكها؛ فهذه الحكومة يبدو أنها ما زالت تراهن على الحماية التي يوفرها لها أصدقاؤها في الكونغرس، واللوبي الإسرائيلي، واليمين الأميركي المستعد دائمًا للتدخل لحمايتها من تداعيات أي تطاول على رئيس الولايات المتحدة، أو حتى تهديد مباشر لمصالح الولايات المتحدة.
أضرار مستقبلية
ثمة من يرى أنّ على نتنياهو ألا يغالي في الرهان على ثقل حلفاء إسرائيل في واشنطن؛ فالمسؤول الذي وصف قبول نتنياهو لدعوة بينر بـ "البصقة في وجهنا"، ذكّره بأنه بقي لأوباما في البيت الأبيض نحو عام ونصف العام، وبأنه "سيكون هنالك ثمن". وحسب السفير الأميركي الأسبق في إسرائيل مارتن إنديك، فإنّ الشرخ في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية لم يكن يومًا بهذا الاتساع، مذكرًا بالصدام الذي وقع عام 1956 بين إدارة الرئيس دوايت أيزنهاور وإسرائيل على خلفية العدوان الثلاثي على مصر.
وقد وصفت زعيمة الأقلية الديمقراطية في مجلس النواب الأميركي، نانسي بيلوسي، كلمة نتنياهو أمام الكونغرس بأنها "إهانة لذكاء الولايات المتحدة"، وقالت إنها "حزنت من تطاول (نتنياهو) على مستوى معرفتنا بالتهديد الذي تمثله إيران". وأظهر استطلاع للرأي العام الأميركي، أجري منتصف فبراير/شباط الماضي، أنّ أكثر من 63% من الأميركيين يعارضون أن يلقي نتنياهو خطابًا في الكونغرس. كما أظهر الاستطلاع الذي أجرته شبكة "سي إن إن" ومركز "أو آر سي"، أنّ 66% من الرأي العام الأميركي يريد أن تكون الولايات المتحدة محايدة في "الصراع الإسرائيلي - الفلسطيني"، وإن كان 29% من المستطلعة آراؤهم يؤيدون إسرائيل في مقابل 2% لمصلحة الفلسطينيين.
على الصعيد الإسرائيلي، اعتبر مراقبون وسياسيون عديدون أنّ خطاب نتنياهو في الكونغرس أضرّ التحالف الإستراتيجي بين إسرائيل والولايات المتحدة، وأنّ سعي نتنياهو لكسب مزيدٍ من الأصوات، قبل الانتخابات العامة الإسرائيلية المقررة في 17 مارس/آذار الجاري، يكاد يودي بالعلاقات الوثيقة التي طالما ربطت إسرائيل بحليفتها واشنطن. وقالت وزيرة الخارجية الإسرائيلية السابقة، تسيبي ليفني، ورئيسة ائتلاف "الاتحاد الصهيوني" الوسطي إنّ "إسرائيل دولة قوية حليفة للولايات المتحدة، أو على الأقل كانت هكذا، إلى أن قرر نتنياهو أن يدمر كل هذا من أجل حاجاته السياسية... نحن بحاجة إلى إصلاح هذه العلاقة"، والحقيقة أنّ العلاقة الإسرائيلية - الأميركية ليست مهدّدة، بل ما هو عرضة للتهديد: علاقة نتنياهو بالإدارة الأميركية، واهتزاز وضعه الانتخابي نتيجة لذلك.
خلاصة
من الواضح أنّ العلاقات الأميركية -الإسرائيلية تمرّ بمرحلةٍ غير مسبوقة من التوتر، ولكن، ينبغي أيضًا عدم الذهاب بعيدًا في الحديث عن انتهاء التحالف الوثيق الذي يجمعهما. فعلى الرغم من تلميحات صدرت عن البيت الأبيض بأنّ إدارة أوباما قد تعاقب إسرائيل، برفع الحصانة القانونية عنها في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فإنّ الواقع يكذب هذه النيات. ففي وقت كانت فيه مستشارة الأمن القومي، سوزان رايس، تندّد بقبول نتنياهو دعوة إلقاء خطابٍ في الكونغرس، كان كيري يقدّم مرافعةً دفاعيةً عن إسرائيل في مجلس حقوق الإنسان في جنيف، متهمًا المجلس بـ "الهوس" بما وصفه "مزاعم" ارتكابها انتهاكات لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من أنّ البيت الأبيض قرّر عدم إيفاد مسؤولين "رفيعين جدًا" مثل نائب الرئيس الذي اعتاد أن يحضر مؤتمر اللوبي الإسرائيلي "إيباك" في واشنطن، فإنه أوفد سوزان رايس وكذلك السفيرة الأميركية في الأمم المتحدة، سمانثا باور، ليؤكدا، مرة أخرى، على عمق العلاقات الخاصة التي تربط بين الولايات المتحدة وإسرائيل. وهذا يعني أنه على الرغم من ضرر كبير ألحقه نتنياهو بالعلاقة مع إدارة أوباما، فإنه لا ينبغي المراهنة على حصول افتراق في العلاقات الأميركية - الإسرائيلية في المدى القريب.
No comments:
Post a Comment