Link
لم يكن مشهد تجمّع ما يمكن أن يطلق عليهم اسم "النخبة المصرية" في ألمانيا لمؤازرة الرئيس عبد الفتاح السيسي اعتباطياً. هو جزء من مشهد عام مؤطر ومنسق، يحدث منذ أكثر من عام في الداخل المصري، غير أن ميزته، هذه المرّة، أنه تبدّى أمام أعين العالم الذين ليس لديهم ترف الغرق في تفاصيل المشهد المصري، السياسي والاقتصادي والإعلامي، وحتى الديني، والذي بات كله يتمحور حول شخص "الرئيس الملهم".
المشكلة أن هذا التوجه ليس محصوراً في إطار بروباغندا محلية فقط، كما الحال في كل الأنظمة الديكتاتورية التي تحاول تلميع صورة الزعيم في أذهان شعبه. المشكلة أن هذا "الزعيم" نفسه يروج نفسه وعلى الملأ، وبدون أي مواربة، بأنه هو هذا الشخص العالم والعليم في كل بواطن الأمور، ولا بد لشعبه أن يسمع منه. هذا ما ظهر في ما يمكن تسميته خطاب "أنا طبيب" الذي وجهه السيسي للجالية المصرية في ألمانيا، حتى لو كان نصف الحضور من المصريين الذين جاءوا معه إلى برلين. لم يراع الرئيس المصري وجوده في دولة غربية، من المفترض أن إعلامها وسياسييها يترصدون ما يمكن أن يقوله الرئيس الزائر. إذا كان الأمر كذلك، فلا بد أن صاعقة أصابتهم، وهم يقرأون ترجمة ما قاله السيسي لأبناء الجالية، خصوصاً هذه الجملة: "أنا طبيب، ربنا خلقني طبيب أوصف الحالة، هو خلقني كده، أبقى عارف الحقيقة وأشوفها، ودي نعمة من ربنا، اسمعوها مني، وزعماء كل الدنيا خبراء المخابرات والسياسيين والإعلاميين، وكبار الفلاسفة - لو حبيتوا - قالوا للناس اسمعوا كلام الراجل ده".
هؤلاء لا شك سيحدثون أنفسهم ويتخيلون ماذا لو أن أحد الزعماء في أوروبا خرج على الجمهور، وخاطبهم بما قاله السيسي للجالية المصرية. الإجابة ستكون سهلة وبسيطة بالنسبة لهم، فمن يقول هذا الكلام، زعيماً كان أم مواطناً عادياً، لا بد أن يعلن فاقداً للأهلية، ويتم تحويله مباشرة إلى أقرب طبيب نفسي، والحجر عليه، إلى حين استبيان مدى رجاحة عقله، ليعود إلى الانخراط في المجتمع.
هذا كان من الممكن أن يحدث في الغرب، لكن ليس في مصر أو أي دولة عربية أخرى، خصوصاً أن مثل هذا الخطاب استقبل بالتطبيل والتهليل من الإعلام الغارق في المدح، والمحترف صناعة ديكتاتوريات وآلهة، ومعه كذلك المجتمع اللاهث وراء لقمة العيش، وتلقي كم السموم المبثوثة عبر قنوات التلفزة الكثيرة. ما قاله الرئيس المصري كان يجدر التوقف عنده كثيراً، خصوصاً أنه غير مسبوق في تاريخ الديكتاتوريات الحديثة، وربما القديمة، إذ لم يسبق لأحد من عتاة الاستبداد أن أغدق على نفسه، وبلسانه، هذا الكم من الأوصاف، كان على الأقل يمليها على الآخرين، ليتولوا هم إضفاءها عليه. بكل الأحوال، السيسي غير مقصر في هذا الأمر، لكن، يبدو أن كثرة ترداد الصفات والأكاذيب والفبركات الإعلامية عن "الدور الرائد الذي يقوم فيه عالمياً"، جعلته فعلياً يصدق أنه مصدر اهتمام العالم، وكلامه مسموع في كل أرجاء المعمورة.
الأسوأ قد يكون قادماً، خصوصاً مع بروز صفات جديدة للسيسي، قد يصدقها بنفسه. فها هو تسجيل مصور لأحد مشايخ الأزهر يروي فيه حكاية رجل ذهب إلى مكة للدعاء على الزعماء العرب. ويقول هذا الشيخ إن الرجل دعا فعلياً على بشار الأسد وخليفة حفتر والقذافي، وما إن وصل إلى السيسي "حتى شلّ لسانه". الفيديو متداول على نطاق واسع، ولا شك أن السيسي نفسه يشاهده مبتهجاً، كيف لا؟ وهو "صاحب الرؤى" التي تنبأت له بما وصل إليه، ولعل أشهرها ما بات يعرف برؤية "ساعة الأوميغا". وبعد كلام هذا الشيخ، لا بد أن الرئيس المصري سيصدق بأنه "مبعوث من الله" لخدمة البشرية، وعليه، سيبدأ التصرف وفق هذا المنطق. هو أساساً لم يكن بحاجة إلى كلام هذا الشيخ، فسبق لعلماء دين أزهريين أن شبهوه بالأنبياء، وتولى الإعلام تكريس هذه الصورة، ليكتمل مشهد صناعة "الزعيم الإله" الذي ستعيش مصر في كنفه سنوات وسنوات.
No comments:
Post a Comment