جلبير الأشقر
Link
لفت نظري التقرير المقتضب المتعلّق بمعركة الموصل الذي صدر عن وكالة رويترز يوم الأحد الماضي وحرّره مراسل الوكالة، باباك دهقان بيشه، من قرية عين نصير في العراق. فعنوان التقرير ملفتٌ بحدّ ذاته: «فصائل مدعومة من إيران تنضم لحملة تقودها أمريكا لتحرير الموصل رافعة رايات الشيعة». وكأن المراسل أراد أن يتهكّم بسخرية التاريخ القصوى التي تجعل إيران، منذ سنوات عدة بل عقود، في تحالف موضوعي مع «الشيطان الأكبر» حسب التسمية الخمينيّة. ويشير المراسل إلى أنه «على الرغم من أن هذه الجماعات تأتمر رسمياً بأوامر رئيس الوزراء حيدر العبادي غير أن الحشد الشعبي يتألف في معظمه من جماعات درّبتها إيران وولاؤها هو للزعيم الأعلى آية الله علي خامنئي. كما ترتبط هذه المجموعات بصلات مقرّبة بالجنرال قاسم سليماني قائد فيلق القدس ذراع العمليات الخارجية للحرس الثوري الإيراني. وشوهد سليماني يجول في الخطوط الأمامية حول الموصل في الأسبوع الماضي».
وبعد التذكير بأن منظمة العفو الدولية سبق أن أدانت «انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان» بينها «جرائم حرب» ارتكبتها الجماعات الشيعية المسلّحة ضد المدنيين الفارين من المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش، وبعد الإشارة إلى قلق المسؤولين المحليين «من رفع الجماعات الشيعية المسلحة وعدد من وحدات الجيش والشرطة رايات شيعية في المناطق التي تسكنها غالبية سنية حول الموصل»، ناهيكم برفعها «صور الزعيم الإيراني الأعلى علي خامنئي»، نقل مراسل الوكالة عن مقاتلين في منظمة بدر (فيلق بدر سابقاً)، أبرز التنظيمات العسكرية الشيعية الطائفية الموالية لإيران في العراق وأبرز مكوّنات الحشد الشعبي، نقل عنهم نفيهم لصفة الميليشيا الطائفية التي توصف منظمتهم بها عادة.
والحال أن التنظيمات المذكورة كيانات طائفية بامتياز موالية لدولة تختلف عنها قومياً وتشدّها إليها وشائج طائفية بالمقام الأول، تستخدمها إيران في مشروعها التوسّعي في المشرق العربي الذي يستغل الفروقات الطائفية مثلما استغلتها قبله كافة مشاريع الهيمنة الإقليمية السابقة، منذ الزمن العثماني حتى الزمنين السعودي والبعثي (العراقي والسوري في توجّهين طائفيين مختلفين) مروراً بالزمن الاستعماري الأوروبي. وفي انسجام كامل مع هويتها كأدوات طائفية لسياسة هيمنة إقليمية، لا يقتصر نشاط هذه التنظيمات على بلدانها، بل يتعدّى الحدود إلى البلدان المجاورة حيث تقتضي المصلحة العليا الإيرانية. فيواصل تقرير مراسل رويترز مبشّراً بأن التنظيمات الطائفية الشيعية العراقية تستعدّ للتركيز على سوريا بعد القضاء على تنظيم داعش في بلدها، يقول:
«وعبَر عشرات آلاف المقاتلين من الجماعات الشيعية المسلحة الحدود للقتال إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد بدعم من إيران لكن الحشد الشعبي ليس مشاركاً في المعارك هناك رسمياً. لكن هذا الأمر قد يتغير بعد معركة الموصل إذ قال الائتلاف الشيعي المسلح إنه يعتزم القتال إلى جانب قوات الأسد. ووصف أحمد الأسدي المتحدث باسم الحشد الشعبي خلال مؤتمر صحافي في بغداد يوم السبت سوريا بأنها «الساحة» الرئيسية للقتال معبراً عن استعداد قواته «الذهاب إلى أي مكان يكون فيه تهديد للأمن القومي العراقي». وحمل حائط مكتب منظمة بدر في القيارة يوم الأحد عبارة «من بغداد إلى بوابات دمشق»». (المصدر ذاته)
وقد يخبرنا بعض الناس، سواء كان الأمر عن سذاجة أو سوء نية، أن إيران تخوض معركة ضد الإمبريالية والصهيونية وأن رأس حربة تلك المعركة تنظيم حزب الله اللبناني الذي تصدّى ببطولة للعدوان الإسرائيلي على لبنان قبل أن يقاتل إلى جانب النظام السوري «الممانع». فهل نسي هؤلاء أن نظام آل الأسد شارك في الحرب الأمريكية على العراق سنة 1991 مع الائتلاف الذي قادته الولايات المتحدة، وأن التنظيمات العراقية الموالية لإيران (وفي صدارتها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي انبثقت عنه منظمة بدر) تعاونت مع الاحتلال الأمريكي لبلدها، ودخلت بغداد خلف مدرّعاته سنة 2003 لتشارك في سلطة الائتلاف المؤقتة ومن ثم في مجلس الحكم العراقي، الهيئتين اللتين شكّلهما بول بريمر، المفوّض السامي للإمبريالية الأمريكية، هل نسوا هذه الحقائق الفاقعة؟
وألا يرون الخطورة القصوى للمشروع الذي تزجّ إيران فيه فصائل عربية شيعية، أكانت لبنانية أم عراقية؟ فإن التنظيمات الطائفية الشيعية العربية المسلّحة التي تقف إيران وراءها والمقبولة دولياً باتت تقابلها تنظيمات طائفية سنّية عربية مسلّحة تدعمها جملة من الدول الإقليمية وهي مقبولة دولياً على غرار السابقة. وبالطبع، ليس المقصود هنا المجانين الإرهابيين المنضوين إلى تنظيمي القاعدة وداعش، بل منظمات منضوية في إطار المعارضة السورية المسلّحة تتفق واشنطن وموسكو على أنها ليست من الصنف الإرهابي. فإن سلوك التنظيمات الطائفية الشيعية العراقية واللبنانية من شأنه أن يحثّ التنظيمات الطائفية السنّية السورية على اجتياز الحدود بدورها لتواصل القتال على أرض العراق «من بوابات دمشق إلى بغداد»، إن لم يكن إلى بيروت أيضاً.
وهكذا تخطو أوضاعنا خطىً سريعة نحو تحقّق المشروع القديم الرامي إلى تفتيت المشرق العربي إلى كيانات طائفية متناحرة. وكم كان على حق ذلك المؤرخ الفرنسي الذي قال لي قبل خمس سنوات: «أنتم العرب كنتم تعزون ذلك المشروع تقليدياً إلى الصهيونية، أفلا ترون أن إيران باتت هي أداته الرئيسية؟». وقد تعددت الأسباب والكارثة واحدة: بات صدام الطائفيات الوجه السائد لصدام الهمجيات في المشرق العربي الراهن. وليت جيل «الربيع العربي» يستلهم كلمات إبراهيم اليازجي في قصيدته الشهيرة «تَنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ» مثلما استلهم كلمات أبو القاسم الشابّي في قصيدة «إرادة الحياة» عندما قام بانتفاضته الرائعة قبل ستّ سنوات:
«خَلُّوا التَّعَصُّبَ عَنْكُمْ وَاسْتَوُوا عُصَبَاً… عَلَى الوِئَامِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ تَعْتَصِبُ»
وبعد التذكير بأن منظمة العفو الدولية سبق أن أدانت «انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان» بينها «جرائم حرب» ارتكبتها الجماعات الشيعية المسلّحة ضد المدنيين الفارين من المناطق الواقعة تحت سيطرة تنظيم داعش، وبعد الإشارة إلى قلق المسؤولين المحليين «من رفع الجماعات الشيعية المسلحة وعدد من وحدات الجيش والشرطة رايات شيعية في المناطق التي تسكنها غالبية سنية حول الموصل»، ناهيكم برفعها «صور الزعيم الإيراني الأعلى علي خامنئي»، نقل مراسل الوكالة عن مقاتلين في منظمة بدر (فيلق بدر سابقاً)، أبرز التنظيمات العسكرية الشيعية الطائفية الموالية لإيران في العراق وأبرز مكوّنات الحشد الشعبي، نقل عنهم نفيهم لصفة الميليشيا الطائفية التي توصف منظمتهم بها عادة.
والحال أن التنظيمات المذكورة كيانات طائفية بامتياز موالية لدولة تختلف عنها قومياً وتشدّها إليها وشائج طائفية بالمقام الأول، تستخدمها إيران في مشروعها التوسّعي في المشرق العربي الذي يستغل الفروقات الطائفية مثلما استغلتها قبله كافة مشاريع الهيمنة الإقليمية السابقة، منذ الزمن العثماني حتى الزمنين السعودي والبعثي (العراقي والسوري في توجّهين طائفيين مختلفين) مروراً بالزمن الاستعماري الأوروبي. وفي انسجام كامل مع هويتها كأدوات طائفية لسياسة هيمنة إقليمية، لا يقتصر نشاط هذه التنظيمات على بلدانها، بل يتعدّى الحدود إلى البلدان المجاورة حيث تقتضي المصلحة العليا الإيرانية. فيواصل تقرير مراسل رويترز مبشّراً بأن التنظيمات الطائفية الشيعية العراقية تستعدّ للتركيز على سوريا بعد القضاء على تنظيم داعش في بلدها، يقول:
«وعبَر عشرات آلاف المقاتلين من الجماعات الشيعية المسلحة الحدود للقتال إلى جانب قوات الرئيس السوري بشار الأسد بدعم من إيران لكن الحشد الشعبي ليس مشاركاً في المعارك هناك رسمياً. لكن هذا الأمر قد يتغير بعد معركة الموصل إذ قال الائتلاف الشيعي المسلح إنه يعتزم القتال إلى جانب قوات الأسد. ووصف أحمد الأسدي المتحدث باسم الحشد الشعبي خلال مؤتمر صحافي في بغداد يوم السبت سوريا بأنها «الساحة» الرئيسية للقتال معبراً عن استعداد قواته «الذهاب إلى أي مكان يكون فيه تهديد للأمن القومي العراقي». وحمل حائط مكتب منظمة بدر في القيارة يوم الأحد عبارة «من بغداد إلى بوابات دمشق»». (المصدر ذاته)
وقد يخبرنا بعض الناس، سواء كان الأمر عن سذاجة أو سوء نية، أن إيران تخوض معركة ضد الإمبريالية والصهيونية وأن رأس حربة تلك المعركة تنظيم حزب الله اللبناني الذي تصدّى ببطولة للعدوان الإسرائيلي على لبنان قبل أن يقاتل إلى جانب النظام السوري «الممانع». فهل نسي هؤلاء أن نظام آل الأسد شارك في الحرب الأمريكية على العراق سنة 1991 مع الائتلاف الذي قادته الولايات المتحدة، وأن التنظيمات العراقية الموالية لإيران (وفي صدارتها المجلس الأعلى للثورة الإسلامية في العراق، الذي انبثقت عنه منظمة بدر) تعاونت مع الاحتلال الأمريكي لبلدها، ودخلت بغداد خلف مدرّعاته سنة 2003 لتشارك في سلطة الائتلاف المؤقتة ومن ثم في مجلس الحكم العراقي، الهيئتين اللتين شكّلهما بول بريمر، المفوّض السامي للإمبريالية الأمريكية، هل نسوا هذه الحقائق الفاقعة؟
وألا يرون الخطورة القصوى للمشروع الذي تزجّ إيران فيه فصائل عربية شيعية، أكانت لبنانية أم عراقية؟ فإن التنظيمات الطائفية الشيعية العربية المسلّحة التي تقف إيران وراءها والمقبولة دولياً باتت تقابلها تنظيمات طائفية سنّية عربية مسلّحة تدعمها جملة من الدول الإقليمية وهي مقبولة دولياً على غرار السابقة. وبالطبع، ليس المقصود هنا المجانين الإرهابيين المنضوين إلى تنظيمي القاعدة وداعش، بل منظمات منضوية في إطار المعارضة السورية المسلّحة تتفق واشنطن وموسكو على أنها ليست من الصنف الإرهابي. فإن سلوك التنظيمات الطائفية الشيعية العراقية واللبنانية من شأنه أن يحثّ التنظيمات الطائفية السنّية السورية على اجتياز الحدود بدورها لتواصل القتال على أرض العراق «من بوابات دمشق إلى بغداد»، إن لم يكن إلى بيروت أيضاً.
وهكذا تخطو أوضاعنا خطىً سريعة نحو تحقّق المشروع القديم الرامي إلى تفتيت المشرق العربي إلى كيانات طائفية متناحرة. وكم كان على حق ذلك المؤرخ الفرنسي الذي قال لي قبل خمس سنوات: «أنتم العرب كنتم تعزون ذلك المشروع تقليدياً إلى الصهيونية، أفلا ترون أن إيران باتت هي أداته الرئيسية؟». وقد تعددت الأسباب والكارثة واحدة: بات صدام الطائفيات الوجه السائد لصدام الهمجيات في المشرق العربي الراهن. وليت جيل «الربيع العربي» يستلهم كلمات إبراهيم اليازجي في قصيدته الشهيرة «تَنَبَّهُـوا وَاسْتَفِيقُـوا أيُّهَا العَـرَبُ» مثلما استلهم كلمات أبو القاسم الشابّي في قصيدة «إرادة الحياة» عندما قام بانتفاضته الرائعة قبل ستّ سنوات:
«خَلُّوا التَّعَصُّبَ عَنْكُمْ وَاسْتَوُوا عُصَبَاً… عَلَى الوِئَامِ وَدَفْعِ الظُّلْمِ تَعْتَصِبُ»
٭كاتب وأكاديمي من لبنان
No comments:
Post a Comment