صالح النعامي
منذ اندلاع انتفاضة الأقصى، في نهاية سبتمبر/أيلول 2000، يعتبر الحرق بصواريخ "الهيل فير"، أميركية الصنع، أحد أسباب الموت الرئيسة في قطاع غزة. فقد استخدم جيش الاحتلال أحجاماً مختلفة من هذه الصواريخ التي يطلقها من مروحياتٍ، وطائراتٍ غير مأهولة على أهداف متحركة، أو ثابتة، في القطاع، لكن النتيجة تبقى واحدة، هي أن يقضي الناس حتفهم حرقاً، ويتحولون إلى جثث متفحمة، يستحيل التعرف على ملامحها. من خلال عملي الصحافي، ومن إقامتي في قطاع غزة، رأيت ناساً كثيرين، منهم أقارب وأصدقاء وجيران، بعد أن تحولوا إلى جثث متفحمة بفعل هذه الصوايخ، وعايشت ألم فراق هؤلاء المباغت والمروع.
لا يطال العقاب بالحرق بالضرورة المقاومين، بل أغلبية الذين قتلوا في الحرب على غزة بهذه الصواريخ مدنيون، كما كشفت صحيفة هآرتس في 4 فبراير/شباط الجاري. والإشارة إلى هذه الحقيقة مهمة، في ظل الاهتمام الكبير والمبرر بجريمة إعدام الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، حرقاً على يدي تنظيم الدولة الإسلامية. حقاً، تعجز الكلمات عن وصف السادية التي تمت بها هذه الجريمة التي أساءت للإسلام قبل غيره؛ علاوة على أنها مثلت طعنة نجلاء في ظهر الشعب السوري المظلوم الذي تسلق هؤلاء على قضيته العادلة، فما زادوها إلا خساراً وتقهقرا. لكن، للأسف، هناك من يريد استغلال هذه الجريمة النكراء، لكي يزيف الوعي الجمعي العربي، ويقدم ما حصل على أنه غير مسبوق، وأن قصة إحراق البشر وذبحهم بالسكاكين بدأت مع انطلاق تنظيم "الدولة".
وتكشف حادثة حرق الكساسبة فقط حجم التخاذل الذي تعرض له الشعب العربي الفلسطيني الذي يواجه أبناؤه المطالبون بحريتهم الإحراق والتفحيم والذبح، منذ زمن بعيد. أحرقت إسرائيل آلاف الفلسطينيين أحياءً، فكافأتها أنظمة عربية، وضمنها الأردني، بالتنسيق والتعاون. ولا داعي، هنا، إلى العودة مجدداً لما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، إنه شن
الحرب على غزة، في ظل دعم عربي غير مسبوق. تحول في هذه الحرب 2268 فلسطينيّاً، بأوامر نتنياهو، إلى مجرد رقم، لا يعني شيئاً لصناع القرار في العواصم العربية. اختار الجمهور الإسرائيلي في فبراير/شباط عام 2005، في استطلاع أجرته قناة التلفزة الإسرائيلية الثانية، مئير دغان، رئيس جهاز الموساد، في حينه، "رجل العام". ووقف مقدم البرامج الحوارية في القناة، داني كوشمارو، ليعدد "مناقب" دغان، حيث أشار إلى أنه "ولد وسكين بين أسنانه"، واشتهر في أثناء خدمته العسكرية بذبح العرب بـسكين "ياباني" (المشرط). وقد تبين أن ذبح البشر بهدف الترويع والردع كان جزءاً من استراتيجية إسرائيل في مواجهة المقاومة الفلسطينية. ويشير بن كاسبيت، في مقال نشرته معاريف في 9-7-2006، إلى أن شارون الذي عمل دغان تحت إمرته، في مطلع سبعينيات القرن الماضي، عندما سئل عن سر تعيينه دغان رئيساً للموساد، قال: إنه يجيد فن فصل رأس العربي عن جسده. ودلل تحقيق صحافي أعده كاتب هذه السطور، ونشر في صحيفة "الأهرام ويكلي" في مارس/آذار 2009، أن دغان، وبتعليمات من شارون، كان يلقي جثث الفلسطينيين الذين كان يذبحهم في بواليع المجاري، على مرأى من الناس، حرصاً على الترويع، لضمان تحقيق أكبر قدر من الردع، استناداً إلى شهادات أناس عاينوا هذه الأحداث المروعة.
تخيلوا حجم الضجيج الذي سيثور في العالم، وفي عالمنا العربي تحديداً، لو أن حاكماً عربيّاً استقبل في قصره أبو بكر البغدادي، زعيم تنظيم الدولة الإسلامية. ستقوم الدنيا ولن تقعد، وبحق. وسيثور السؤال: كيف يتم استقبال مهندس ذبح البشر بالسكاكين وإحراقهم بالبنزين؟ لكن أحداً لم يطرح السؤال نفسه، عندما استقبل ملك الأردن، عبدالله الثاني، في قصره نتنياهو الذي أحرق آلاف الفلسطينيين، بعد شهرين على انتهاء الحرب، وفي وقت مازال عشرات الآلاف منهم يفترشون الأرض، ويتدثرون السماء، بعد أن سوت طائرات نتنياهو منازلهم بالأرض. ولا نريد أن نسأل عن حجم الحفاوة التي كان يستقبل بها دغان في عواصم عربية، ومنها عمان. ويكفي أن نشير إلى ما كتبه الصحافي الإسرائيلي، شمعون شيفر، في "يديعوت أحرنوت" في 7-9-2012 أن دغان أطلعه على خزانة في مكتبه، تزخر بهدايا ثمينة جدّاً قدمها له حكام ومسؤولون عرب في أثناء زياراته السرية إلى عواصم العرب.
من أسف، يحاول النظام الأردني تأميم الجدل حول قضية إحراق الكساسبة، وتثبيت رواية واحدة، هي أن هذا الطيار سقط في معركة من معارك الأردن المصيرية، لإضفاء شرعية على دور وظيفي اعتاد عليه منذ وقت طويل. ويحرص النظام والنخب المطبلة له على شيطنة كل من يقدم مقاربة مختلفة، فيتهمونه بـ "الدعشنة". كشفت عملية التفجير التي نفذها همام البلوي في 30-12-2009 في قاعدة الاستخبارات الأميركية، في ولاية خوست الأفغانية، أنه إلى جانب القتلى من ضباط المخابرات الأميركية، في العملية، كان ابن عم الملك عبدالله، الأمير علي بن زيد، الضابط الرفيع في المخابرات الأردنية. ودلل وثائقي أعدته قناة "الجزيرة" على أن المخابرات الأردنية جندت البلوي، وطلبت منه التوجه إلى أفغانستان لاختراق تنظيم القاعدة، لتحسين قدرة الأميركيين على ضربه. لكن البلوي اختار، في النهاية، العمل مع "القاعدة"، وصار ما صار. لم يكن تنظيم الدولة قد ظهر، ولم تكن حركة طالبان وتنظيم القاعدة في أفغانستان يشكلان، حينها، خطراً على الأمن الأردني. لكن النظام الأردني اختار التجند بدافع الحرص على لعب دوره الوظيفي لخدمة المصالح الأميركية. وهذا السبب الحقيقي وراء انضمامه إلى الحرب التي يشنها التحالف الدولي على تنظيم الدولة حاليّاً.
حقّاً، يمثل تنظيم الدولة الإسلامية نكبة للأمة، لأنه، بالإضافة إلى جرائمه البشعة، وفر لأنظمة الاستبداد الفرصة لإضفاء شرعية على وجودها، وتقنين الأدوار الوظيفية التي تلعبها لصالح أعداء الأمة. وفي الوقت نفسه، فتح هذا التنظيم الباب على مصراعيه، أمام نخب عربية كثيرة، لخوض المواجهات السهلة، بذم حارقي البشر بالبنزين، وذبحهم بالسكاكين العادية. لكن، يصمت هؤلاء المنافقون صمت من في القبور، عندما يتحالف الحكام الذين يطبلون لهم مع حارقي البشر بـالهيل فير وذبّاحيهم بالسكين الياباني.
No comments:
Post a Comment