Thursday, December 28, 2006

العراق بالأحمر والأسود...سيخرجوا حقناً لرأس المال وليس الدم

From Ramallah: Dr. Adel Samara
د. عادل سمارة


لمن نستمع نحن العرب، بل العروبيون، فليس كل عربي هو عربي! هل نستمع لتقرير بيكر-هاملتون، أم لتصريحات روبرت جيتس، أم لزيارة جون ابي زيد لإثيوبيا ، أم لتخلي حكام العرب عن السودان: ليدخله وباء جند الإستعمار المعولم ، أم لأقوال أولمرت "أن لا محادثات مع سوريا إلا برضى أميركي". أم نستمع لهذه جميعاً من جهة، أم نسأل التاريخ، والذاكرة والاقتصاد وعقولنا؟
لا جدال في أن ما يصدر عن مركز العولمة مفيد معلوماتياً، حتى لو كان الكثير منه بقصد التضليل، والأكثر منه لا يُقال. فقد يرى البعص في تصريحات جيتس ما يُعاكس أو يرد على تقرير بيكر-هاملتون، أو كأن هذا التقرير هو حالة مهجنة ومركية لرؤية حزبين متعارضين. وقد تكون القراءة الأكثر هدوءاً، أن كله يكمل بعضه بعضاً، وكله في خدمة الطبقة الحاكمة، وفي "الإجتهاد أجر وثواب".
يجدر أن لا يغيب عن البال ان الحزبين الجمهوري والديمقراطي هما حزبان لنفس الطبقة، وليست العلاقة بينهما تقاسم أدوار بقدر ما هي تكامل أداء الوظيفة لأن من ليس في الحكم منهما، هو في المصلحة المشتركة، بمعنى انه حين تم احتلال العراق كان الجمهوريون يخدمون الطبقة الحاكمة في الولايات المتحدة التي يشكل الديمقراطيون جزءا بنيويا عميقا منها.
ودون حديث عميق في تقرير بيكر-هاملتون، فالتقرير ينص بوضوح على غرق جيش الإحتلال في إشكالية الهزيمة في العراق، لكنه لا يتحدث أو ينصح بخروج نهائي من العراق. ربما هو تقرير لإتقاء الخسائر الأكبر والأكثر وهو لإنارة الطريق امام السلطة الأميركية نفسها التي تدير الحرب على العراق.
من ناحية جوهرية، فتقرير بيكر-هاملتون وحديث جيتس يكملان بعضهما البعض. فالعدوان الأميركي على العراق كان من أجل النفط، ولم يجف النفط بعد. وإن المرء ليعجب من اي كاتب لا يبدأ من هنا وينتهي هنا. الحرب في العراق هي تعبئة منابع النفط المنهوب بدم العراقيين والجنود الأميركيين، الأحمر بدل الأسود، تماماً كما يضخون الماء ليخرج الغاز إلى الأعلى. هذه هي المعادلة الإقتصادية البشرية في العراق. وليست رؤيتها بعبقرية، بل كل ما يحتاجه المرء، بعضاً من ضمير ليقول ما يعرف ويفهم ويستنتج. وكل الحذلقات والفذلكات عن سوء فهم عربي غربي، أو خلاف ثقافي أو ديني، أو حتى صراع حضاري، رغم أهمية هذا تحديداً، كل هذا ليس سوى رقص خارج الحلبة.
فطالما أن هناك نفطاً، هناك احتلال. وكما كتبنا في هذه النشرة منذ احتلال بغداد 9 نيسان 2003، بأن الإستعمار يبدأ بالجملة ويخرج بالتدريج، لكنه يخرج، نعم، ظل الاعتقاد نفسه، إنما لا يخرج الإحتلال سريعاً ولا شريفاً.
في كثير من الحالات خلق الاستعمار بدائل محلية له. ولكن في العراق ما زال الأمر صعباً ويبدو أنه يزداد صعوبة يوما بعد يوم، حيث يدرك العراقيون، حتى العملاء منهم، ان الإحتلال جاء ليسحق العميل قبل الأصيل. وأن هذا الإحتلال، لا يثق حتى بعملائه لأن مصالحه لا تثق إلا بجلده. ويبدو ان الاستعمار لفرط أهمية مصالحه لا يثق بمن يبدلون جلودهم!
يحلم الاحتلال بتقاسم الأدوار في العراق، ان تشرف حكومة العملاء على "الأمن" الداخلي، وتشرف قواعد بعيدة ومحمية من جيشه على "الأمن النفطي"، وهو الحلم الذي حالت المقاومة دونه وستحول دونه إلى النهاية لا شك. وهذا ما يتقاطع جداً مع حديث جيتس: "نحن هنا إلى أمد بعيد". فهل من عجب إذن ان نقول كما ذكرنا في هذ النشرة منذ عامين بأن الأميركيين ينوون الاستيطان في العراق؟ ألا ينطوي هذا القول على نهب وسلب وقتل واحتقار؟
ليس هذا خيال شاعر. فقرابة 200 ألف جندي هم اكثر من سكان العديد من بلدان عربية في الخليج. وأكثر من عرب هذه البلدان مجتمعة في السبعينات. وقد يزداد هذا العدد. فهناك 9 ملايين حاملي البطاقة الخضراء في أميركا من مختلف فقراء العالم الذين يحلمون بالجنة الخضراء في أميركا، ويفدونها بدمائهم التي تراق في العراق. ولن يحول دون هذا الاستيطان المصلحي سوى الإنهيار الإقتصادي، بمعنى أن ارواح طالبي البطاقات الخضراء، وحتى دماء حمر الرقاب، لن تثني الطبقة الحاكمة عن الذهب الأسود. فالاستعداد لبذل الأحمر مقابل الأسود لا حدود له، إلا حينما تصبح الصفقة غير مربحة قط. بعبارة أخرى، فالإحتلال ذاهب هناك في صفقة اقتصادية، لديه رصيد هائل من الدم ليسفحه هناك دون حساب، والفقر في العالم كنتاج لراس المال قادر على تزويد أميركا بمزيد من الدم ليسفح في العراق.
ولا شك أن هناك جيوشاً أخرى لأميركا في العراق، ودماء جنودها ليست أثمن من دم حاملي البطاقة الخضراء، سواء في الحكومة العميلة التي يكاد دورها ينحصر في إدارة القتل الداخلي المتبادل بين أهل العراق. وهناك أنظمة مجاورة تخدم الإستيطان النفطي. فمن سوء الطالع للعراق ان الوسط المحيط به ليس مع المقاومة، بل معادٍ لها. وهذا دليل آخر على ألمعية هذه المقاومة بمعنى أنها تصمد في واقع مجافٍ إلى درجة كبيرة.
من اين تبدأ الهزيمة إذن؟ تبدأ من الخسارة الإقتصادية. فالمسألة هي حساب الربح والخسارة ولا قيمة للإنسان فيها، فكيف إذا كان غير واعٍ أو جره فقره إلى حتفه وهو يعلم؟
قبل ستينات القرن الماضي (القرن العشرين كي لا يبدو الزمان بعيداً) كان فائض الميزان التجاري الأميركي 10 مليار دولار. وحتى بداية سبعينات القرن نفسه انعكس الأمر ليصبح مقدار العجز بنفس مقدار الفائض الذي كان في الستينات. وذلك بفضل حرب فيتنام التي لم تنزعج أميركا من كونها حرقت دماء عشرات آلاف الجنود، بل لأنها حرقت عشرات مليارات الدولارات. فأصل اللعبة هو المال أو هو البضائع مترجمة إلى سيولة مالية. اي اصبحت المضارية غير مجدية. ولم يسعف الإقتصاد ألأميركي كونه ألأقوى في العالم وحصته من الإنتاج السلعي العالمي أكثر من 30 بالمئة.
صحيح أن الأزمة الإقتصادية العالمية الممتدة منذ 1973 وحتى اليوم، رغم ما تخللها، من صعود مؤقت مرة هنا وأخرى هناك، لمؤشر معدل الربح، صحيح أنها ضربت المركز كله، والعالم كله، وليس المركز الأميركي وحده، ولكن تاثير هذه الأزمة على الولايات المتحدة كان اعظم. فلم يسعف اقتصادها ما قامت به من طباعة الدولارات وضخها في السوق، ولا إلغاء القاعدة الذهبية وتعويم الدولار. فقد أخذ العدوان على فيتنام يلتهم كل هذا، إلى جانب حواشيه مثل، زيادة المساعدات الأجنبية للدول العميلة والإنفاق على قواعدها وجيوشها في اليابان وجنوب كوريا وتايوان "لمواجهة الشيوعية" رغم أن هذه الجيوش لم تكن منشغلة في حروب.
تكمن أهمية هذه التطورات أنها أهلكت الإنتاج الأميركي المدني، ودفعته للتحول إلى اقتصاد يتركز أكثر في الإنتاج الحربي. بعبارة أخرى، ربما لم تتراجع اميركا من حيث المستوى التكنولوجي بقدر ما جرى تحويل في الدور الإنتاجي من المدني لصالح العسكري. وهذا لا يعني أن الآخرين لم يأخذوا من حصة أميركا من السوق العالمي "المدني". والمهم ان كل هذا قد اضعف الاقتصاد وحوله من حربي إلى مدني. وأخيراً هربت أميركا من فيتنام. لكنها لم تفقد المصلحة الطبقية لحكامها في العدوان من أجل السوق والثروة، ناهيك أن الإقتصاد نفسه لم يكن ليغامر بقاعدتة الإنتاجية التسليحية. ولكن، أيضا، لا يمكن للإنتاج العسكري أن يعوض الخسارة في مبيعات الإنتاج المدني. فالإنتاج المدني مطلوب لكل المليارات، أما العسكري فمطلوب، ولو بالجملة، لبؤر التوتر. لذا ربما نفهم لماذا تدعم أميركا العدوان ألأثيوبي على الصومال وذهاب أبي زيد، إلى هناك. فليس من منطق في القول أن أميركا تخشى حكومة إسلامية في الصومال، في منطقة ليس فيها من سوق قادر على الاستهلاك العالي أو ثروة توجب النهب، ولكن إشعال المنطقة يخلق طلباً على السلاح، وبالتالي فإن ما لم ينفقه الناس على شراء الإنتاج المدني او حتى ما ينفقوه يذهب لشراء لأسلحة. فهل هناك أكثر وحشية من هذه المعادلة التي لا يعرف المرء منها للوهلة الأولى سوى أن أبي زيد زار المنطقة!
لم يكن النفط غائباً عن المعادلة في الستينات والسبعينات. لكنه كان في اليد بفضل الحكومات الوكيلة. وكانت طفرة اسعار النفط التي سحبت من الغرب الراسمالي فوائض هائلة، لتعيدها إليها نفس الأنظمة وإن بطرق شتى. فما الجديد إذن في احتلال العراق؟
ليس هنا موقع الحديث المفصل، لكن العراق كان بلداً له مشروع قومي، ونفط مؤمم، ونفط بدأ يبيعه باليورو. واهم من كل هذا، فقد شهدت الثمانينات والتسعينات، وحتى اليوم طفرة إنتاجية في الصين والهند وغيرهما، واصبح التحكم بنفط العالم هو أداة ضبط إيقاع الإنتاج والسوق. وكيف يكون ذلك لبلد لم يعد هو المنتج الرئيسي منفردا في هذا العالم. فبعد تراجع حصة اميركا من الإنتاج المدني العالمي، كان لا بد أن تنافس مدنياً عبر الأسلحة، لا بد من احتلال العراق للسيطرة على النفط والتحكم بتدفقه، وعند الاضطرار ، خلق مستوطنات (عسكرية/مدنية) هناك، لتتحول القواعد إلى مدن عسكرية مدنية. وبهذا تحاول اميركا التحكم بنمو هذين البلدين، بل والعالم بأسره. هذا إضافة إلى تحويل أفغانستان إلى قاعدة لأميركا هناك اقرب إلى كل آسيا. وماذا يهم الطبقات الحاكمة في أميركا ونظيراتها في الغرب الراسمالي لو ماتت جنودهم هناك؟ لا شيىء، فهناك تخريجيتين:
العلنية: الدفاع عن مصلحة الأمة
والسرية: ليموت أبناء الطبقات الشعبية من أجل راس المال.
لذا، كان طبيعياً وضروريا تدمير العراق وافغانستان. كان لا بد من التدمير ليتبعه التعمير، هذا منطق راس المال. وهو منطق لا تظهر بشاعته للوهلة الأولى. فليس الأمر مجرد هدم أبنية وطرقات قديمة لإقامة بديلة جديدة، بل هي ذبح ملايين البشر من أجل تشغيل ماكينة راس المال. ماكينة تدور بالدم والنفط، بالأحمر والأسود. لذا، دُمر العراق بدءاً من حضارة سومر وأكد، وحتى الجيش وذبح مئات الألاف واغتيل العلماء، واغتصبت النساء ولا ندري ماذا بعد.
وكل هذا تم باسم دمقرطة العراق على يد بلد يفاخر ب "المجتمع المدني"، هذا الزعم الذي يصلي في محرابه كثير من المثقفين العرب، تجار استيراد الثقافة "كمبرادور الثقافة".
وهكذا، يبقى الإحتلال في العراق طالما المشروع مربحاً وإلى أن يصبح المشروع خاسراً و/أو يثور طالبو البطاقة الخضراء لفرط خوفهم وموتهم، أو خوفهم من حتفهم وإلى جانب هذا كله، إلى أن يكون في الكثير من محيط العراق من هم أفضل ممن هم اليوم. والى أن تمتد المقاومة إلى وطن المقاومة، وهي تمتد حقاً
.

No comments: