Link
تناولت تقارير عديدة، في الآونة الأخيرة، اتصالات بين مبعوثين دوليين، بموافقة إسرائيل، ومسؤولين في حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، بخصوص إمكانية التوصّل إلى هدنة محدودة زمنيًا بين إسرائيل وفصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة، مقابل رفع الحصار الإسرائيلي المستمر على القطاع منذ أكثر من ثمانية أعوام. وما عزّز صدقية هذه الأخبار تصريحات أخيرة أدلى بها إسماعيل هنية، نائب رئيس المكتب السياسي لحماس، أنّ "إسرائيل أبلغت أطرافًا (لم يسمِّها) أنّها لن تشنّ حربًا جديدة على قطاع غزة"، وأضاف مخاطبًا أهل غزة: "أبشروا... الفرج قريب والمرحلة المقبلة ستحمل الخير لأهل غزة الصامدين".
أمّا إسرائيليًا، فقد تواتر الحديث أيضًا عن محادثات يجريها مسؤولون قطريون ومصريون بشأن وقف محتمل لإطلاق النار، مدّته خمسة أعوام بين إسرائيل وحماس. والحقيقة أنّ رئيس الوزراء البريطاني السابق، توني بلير، هو الذي يقوم بهذه الوساطة.
وقد أكّد الناطق باسم حماس في قطاع غزة، سامي أبو زهري، بقوله إنّ حماس تلقّت "أفكاراً" بخصوص مشروع لوقف إطلاق النار. ولكن، من دون مقترحات واضحة، وتجري المفاوضات، في العموم، حول التوصّل إلى هدنة طويلة نسبيًا، تحلّ محلّ اتفاق وقف العمليات القتالية الذي وُقِّع في أغسطس/آب عام 2014، أو تجديده. وقد أنهى ذلك الاتفاق 51 يومًا من العدوان الإسرائيلي على القطاع، وكان من المفترض أن يجري ذلك في مقابل رفع الحصار عن غزة والسماح بإعادة الإعمار. ونوقشت، في حينه، إمكانية السماح ببناء ميناء بحري في غزة. ولكن تفاهمًا إسرائيليًا مصريًا ضد القطاع مكّن إسرائيل من التهرّب من تنفيذ أيّ شروط.
وتركّز حماس في النقاشات الراهنة على هذه القضايا المتعلقة بتسهيل الحياة اليومية على سكان القطاع. ولم يجْر بعد التطرّق إلى شروط وقف إطلاق النار، ومدته، وتفصيلات أخرى. ولا تشمل الملفات المطروحة على طاولة النقاش اعتراف حماس بإسرائيل، ولا تخلّيها عن ترسانة أسلحتها، لا سيّما الصواريخ.
لماذا أحاديث الهدنة الآن
ثمة جملة من الأسباب تدفع حماس وإسرائيل إلى قبول هدنة محددة زمنيًا، تتضمن، في خطوطها العامة، وقفًا لإطلاق النار، ورفعًا للحصار عن قطاع غزة. هذه الأسباب منها ما هو مشترك بين أطراف عدة، تشمل حماس وإسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومنها ما يتعلق بحركة حماس، وأخرى تتعلق بإسرائيل.
دوافع حماس
فيما تسعى حماس إلى التوصّل إلى هدنة طويلة نسبيًا مع إسرائيل، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّها تطلبها بأيّ ثمن؛ فالحركة مازالت تصرّ على رفض الاعتراف بإسرائيل، وهي لا تقبل نزع سلاحها. تعيش حماس مأزقًا كبيرًا في إدارة قطاع غزة المحاصر، إسرائيليًا ومصريًا، منذ أكثر من ثمانية أعوام. وشدِّد الحصار على القطاع من الجانب المصري، في ظل حكم عبد الفتاح السيسي. ويضاف إلى الحصار ثلاثة اعتداءات إسرائيلية كبرى أعوام 2008/2009، و2012، و2014. ولذلك، لا تريد حماس أن تُجرّ إلى معركة أخرى مدمرة مع إسرائيل. إضافةً إلى ما سبق، فإنّ "المصالحة الوطنية" الفلسطينية التي أمَلَتْها حماس وجسّدها "اتفاق الشاطئ" في إبريل/نيسان 2014، ونتج منه "حكومة توافق وطني"، لم تطبّق عمليًا، ولم تأت بالفرج لقطاع غزة، ولم ترفع الحصار عنه في ظلّ استمرار الخلافات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. ولأنّ السلطة الفلسطينية ترفض متابعة التزام إسرائيل اتفاق الهدنة الموقَّعة في شهر أغسطس/آب 2014، فضلًا عن مقررات مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة في القاهرة، في أكتوبر/تشرين أول من العام نفسه، فإنّ حماس تجد نفسها مضطرة إلى تولّي الأمر بنفسها عبر مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. بل إنّ عضو المكتب السياسي لحماس، موسى أبو مرزوق، ألمح في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إلى أنّ حماس قد تجد نفسها مضطرة إلى مفاوضة إسرائيل مباشرةً، غير أنّ المكتب السياسي لحماس سارع إلى إصدار بيان مقتضب أكّد أنّ المفاوضات المباشرة مع العدوّ الصهيوني ليست من سياسة حماس، "وليست مطروحة في مداولاتها، وهذه هي السياسة المعتمدة في الحركة".
وتخشى سلطة حماس في غزة تزايد النقمة الشعبية الناجمة عن الحرمان والحصار وانسداد الأفق. ولكن، إذا انفجر القطاع، فإنّه لن ينفجر في وجه حماس وحدها، بل في وجه إسرائيل ومصر أيضًا. ولهذا، تتقاطع مخاوف إسرائيل من انفجار القطاع مع مخاوف حماس، ما يجعل إسرائيل أكثر براغماتية من الإدارة المصرية، أسيرة الصراع الداخلي مع "الإخوان المسلمين" في تعاطيها مع موضوع الحصار.
دوافع إسرائيل
تتلخص الدوافع الإسرائيلية في غياب أيّ خيارات واقعية للتعامل مع قطاع غزة؛ فحصار ثماني سنوات، وثلاثة اعتداءات وحشية مدمرة في السنوات الستّ الأخيرة، كلّ ذلك لم يؤدّ إلى سقوط حماس، ولا إلى انتفاضة شعبية ضدّها. بل إنّ حماس أثبتت أنّها خرجت أقوى بعد كلّ معركة مع إسرائيل، وصواريخها اليوم تغطّي الدولة العبرية، من أقصاها إلى أقصاها، كما اتّضح ذلك في عدوان صيف العام الماضي، وأيّ حرب معها اليوم ستكون مكلفة جدًا. وأمام هذه المعضلة، إذا أرادت إسرائيل أن تدمّر قدرات القطاع التسليحية والعسكرية، فإنّه لن يكون أمامها إلّا احتلاله كليًا، ما قد يقود إلى حرب شوارع في مناطق مكتظة سكانيًا، فضلًا عن كلفته العالية جدًا بالنسبة إلى إسرائيل نفسها، إضافةً إلى أنّ الاحتلال سيجعل إسرائيل مسؤولة عن القطاع المدمَّر، وعن حاجات سكانه. ولأنّه ليس من مصلحة إسرائيل، كما سبقت الإشارة، حدوث فراغ قيادي في القطاع، إذ قد يعني ذلك تمدّد تنظيمات متطرفة من النوع الذي لا يلقي بالاً لحسابات سياسية وعسكرية، فإنّ إسرائيل قد تجد نفسها، هي الأخرى، مضطرة إلى الدخول في هدنة موقّتة مع حماس، خصوصًا وأنّ ثمة سوابق لذلك، كما في الأعوام 2008، و2012، و2014.
يبقى سبب ثالث، في ظل الإشارات التي تطلقها حماس عن وجود جنود إسرائيليين أسرى لديها، أحياء كانوا أم أمواتًا، وقد تكون إسرائيل تريد بدء مفاوضات لتحديد مصيرهم، والإفراج عنهم أو استلام رفاتهم.
دوافع متقاطعة
يبرز في الدوافع المشتركة الخوف من تمدّد تنظيم "الدولة الإسلامية" في فضاء المنطقة العربية، وتصاعد التهديد الذي يمثّله لجميع الأطراف المعنية، بما فيها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل ومصر من ناحية، وحماس من ناحية أخرى؛ فـالتنظيم يقترب اليوم من حدود فلسطين التاريخية، عبر البوابتين السورية، في الشمال، والمصرية عبر سيناء جنوبًا. بالنسبة إلى حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، يمكن أن يمثّل تنظيم الدولة تحدّيًا حقيقيًا لوجودها وسيطرتها، خصوصاً بعد التهديدات الأخيرة التي أطلقها التنظيم بحقّ حماس وإعلانه نيّته إسقاط حكمها في القطاع. وتتضاعف مخاوف حماس من محاولات تنظيم الدولة استدعاء عدوان إسرائيلي جديد على غزة، عبر إطلاق أفراد محسوبين عليه صواريخ على إسرائيل.
ويبدو أنّ التقدير الإسرائيلي قائم، أيضاً، على أنّ بقاء حماس مسيطرةً على الأوضاع في القطاع، في غياب أيّ وجود للسلطة الفلسطينية هناك، هو أهون الشرّين؛ فإضعاف حماس اليوم سوف يعني تمددًا لـ"داعش" وتنظيمات أخرى صغيرة، لا تملك حسًا بالمسؤولية والعقلانية، في حين أنّ حماس أثبتت عبر سنوات حكمها غزة، أنّها، وإن كانت ترفض الاعتراف بإسرائيل، وتصدّت لثلاث حروب إسرائيلية رئيسة على قطاع غزة، وهي مستمرة في مقاومتها لها، غير أنّها تدرك حدود اللعبة وقواعدها، وتحديدًا في ما يتعلق بمصير ما يقارب المليوني فلسطيني في قطاع غزة، ممّن يحتاجون إلى الأمن والاستقرار، وإعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل على مدى السنوات الماضية.
الحسابات نفسها حاضرة لدى مصر؛ فالهجمات الدامية التي تشنّها "ولاية سيناء"، التابعة لتنظيم الدولة، منذ أشهر، ضد قوات الأمن والجيش المصريَين في سيناء، قد تكون دفعت صانع القرار المصري إلى استنتاج أنّ حماس قوية في غزة، قد تكون مصلحة مصرية في هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك أنّ حماس لم تعد "عدوًا" للنظام الحاكم في مصر وهدفًا له، ومن دون أن يتنازل كليًا عن الاستمرار في اتهام قطاع غزة بما يجري في سيناء، لأهداف ديماغوغية. كما أنّ مصر لا ترغب في فقدان ورقة القطاع دوليًا. وهي قلقة من تحرّك حماس الدولي من خارج القنوات المصرية، وقد يدفعها هذا إلى طلب التفاهم بالحد الأدنى مع حماس.
وقد يكون في إلغاء محكمة مصرية، مطلع الشهر الماضي، بطلبٍ من الحكومة المصرية، حكمًا بعدّ حماس حركة إرهابية، إشارة إلى ذلك. ولا يستبعد أن يكون قرار النظام المصري، أخيراً، فتح معبر رفح، غير مرة أياماً، بعد أشهر من إغلاقه، جاء ضمن السياق نفسه. وكان إسماعيل هنية تحدّث، قبل أيام، عن حدوث انفراجة في العلاقة بين حماس والسلطات المصرية، مشيرًا في هذا السياق إلى أنّ هذا الانفراج "ساهم في تغيير الوضع الإنساني في غزة". تكمن أهمية تصريح هنية عن العلاقة مع مصر في توقيته الذي جاء بعد الهجوم الكبير الذي شنّته "ولاية سيناء"، وأودى بحياة عشرات العسكريين المصريين مطلع شهر يوليو/تموز الجاري.
في السياق الأميركي، تسعى واشنطن إلى توحيد كلّ الجهود في المنطقة لمحاربة "داعش". وعليه، فإنّها قد لا تكون راغبة في فتح جبهة عسكرية أخرى بين إسرائيل وقطاع غزة قد تؤثّر في تماسك التحالف الدولي، والذي يضمّ دولًا عربية وتركيا. وربّما يفسر هذا مباركتها جهود التوصّل إلى هدنة. أمّا أوروبيًا، فثمة تخوّف من انفجارٍ في غزة، قد يدفع آلاف اللاجئين إلى الهجرة إليها بحراً.
خلاصة
بناءً على ما سبق، تمثّل الهدنة المقترحة مصلحةً مشتركة لجميع الأطراف، خصوصاً حماس وإسرائيل. فإن تمّت الهدنة، لن تضطر حماس إلى الاعتراف بإسرائيل والتخلّي عن سلاحها، وهي ترفض تحويل الهدنة إلى تفاوض سياسي. وإذا ما تضمنت شروط الهدنة ميناءً بحريًا، فإنّ هذا سيحرر حماس وقطاع غزة، جزئيًا من الحصار والابتزاز السياسي الذي يرافقه. وبالنسبة إلى إسرائيل، تتيح الهدنة لها هدوءًا على حدودها الجنوبية، وتقلّص إمكانية وقوع انفجار في غزة، جرّاء الحصار والأوضاع الإنسانية المزرية فيها. سيكون التوصّل إلى هدنة مصلحة مشتركة للجميع، للتصدي لخطر "داعش" والتيارات المرتبطة به. غير أنّ كلّ ما سبق لا يعني أنّ الهدنة حتمية أو وشيكة؛ فمواقف الأطراف المختلفة وحساباتها المتناقضة قد تجعل التوصّل إلى هدنة أمرًا صعبًا؛ فقبول إسرائيل بقاء سلاح المقاومة في قطاع غزة لن يكون سهلاً، كما أنّ قبول حماس بالتخلّي عنه مستحيل، فضلًا عن أنّ السلطة الفلسطينية لن تنظر إلى مثل هذا الأمر بعين الرضى، وقد صدرت بوادر احتجاج على ما عُدّ اتصالات جارية بين حماس وإسرائيل، ومن ثمَّ فإنّها قد تسعى إلى إفساده. الأهم من ذلك كلّه، أنّه بموجب التجربة مع بلير بوصفه مبعوث الرباعية قد تتمخض الاتصالات عن محاولةٍ لاحتواء حماس، بضمّها إلى "مسيرة السلام" في حلّ قضايا معيشية للقطاع أساساً، ولا يمكن الركون إلى أيّ وعود إسرائيلية؛ فتجربة عقود معها تثبت أنّها لا تلتزم عهدًا ولا ميثاقًا.
وقد أكّد الناطق باسم حماس في قطاع غزة، سامي أبو زهري، بقوله إنّ حماس تلقّت "أفكاراً" بخصوص مشروع لوقف إطلاق النار. ولكن، من دون مقترحات واضحة، وتجري المفاوضات، في العموم، حول التوصّل إلى هدنة طويلة نسبيًا، تحلّ محلّ اتفاق وقف العمليات القتالية الذي وُقِّع في أغسطس/آب عام 2014، أو تجديده. وقد أنهى ذلك الاتفاق 51 يومًا من العدوان الإسرائيلي على القطاع، وكان من المفترض أن يجري ذلك في مقابل رفع الحصار عن غزة والسماح بإعادة الإعمار. ونوقشت، في حينه، إمكانية السماح ببناء ميناء بحري في غزة. ولكن تفاهمًا إسرائيليًا مصريًا ضد القطاع مكّن إسرائيل من التهرّب من تنفيذ أيّ شروط.
وتركّز حماس في النقاشات الراهنة على هذه القضايا المتعلقة بتسهيل الحياة اليومية على سكان القطاع. ولم يجْر بعد التطرّق إلى شروط وقف إطلاق النار، ومدته، وتفصيلات أخرى. ولا تشمل الملفات المطروحة على طاولة النقاش اعتراف حماس بإسرائيل، ولا تخلّيها عن ترسانة أسلحتها، لا سيّما الصواريخ.
لماذا أحاديث الهدنة الآن
ثمة جملة من الأسباب تدفع حماس وإسرائيل إلى قبول هدنة محددة زمنيًا، تتضمن، في خطوطها العامة، وقفًا لإطلاق النار، ورفعًا للحصار عن قطاع غزة. هذه الأسباب منها ما هو مشترك بين أطراف عدة، تشمل حماس وإسرائيل ومصر والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، ومنها ما يتعلق بحركة حماس، وأخرى تتعلق بإسرائيل.
دوافع حماس
فيما تسعى حماس إلى التوصّل إلى هدنة طويلة نسبيًا مع إسرائيل، إلّا أنّ ذلك لا يعني أنّها تطلبها بأيّ ثمن؛ فالحركة مازالت تصرّ على رفض الاعتراف بإسرائيل، وهي لا تقبل نزع سلاحها. تعيش حماس مأزقًا كبيرًا في إدارة قطاع غزة المحاصر، إسرائيليًا ومصريًا، منذ أكثر من ثمانية أعوام. وشدِّد الحصار على القطاع من الجانب المصري، في ظل حكم عبد الفتاح السيسي. ويضاف إلى الحصار ثلاثة اعتداءات إسرائيلية كبرى أعوام 2008/2009، و2012، و2014. ولذلك، لا تريد حماس أن تُجرّ إلى معركة أخرى مدمرة مع إسرائيل. إضافةً إلى ما سبق، فإنّ "المصالحة الوطنية" الفلسطينية التي أمَلَتْها حماس وجسّدها "اتفاق الشاطئ" في إبريل/نيسان 2014، ونتج منه "حكومة توافق وطني"، لم تطبّق عمليًا، ولم تأت بالفرج لقطاع غزة، ولم ترفع الحصار عنه في ظلّ استمرار الخلافات بين السلطة الفلسطينية وحركة حماس. ولأنّ السلطة الفلسطينية ترفض متابعة التزام إسرائيل اتفاق الهدنة الموقَّعة في شهر أغسطس/آب 2014، فضلًا عن مقررات مؤتمر إعادة إعمار قطاع غزة في القاهرة، في أكتوبر/تشرين أول من العام نفسه، فإنّ حماس تجد نفسها مضطرة إلى تولّي الأمر بنفسها عبر مفاوضات غير مباشرة مع إسرائيل. بل إنّ عضو المكتب السياسي لحماس، موسى أبو مرزوق، ألمح في شهر سبتمبر/أيلول الماضي، إلى أنّ حماس قد تجد نفسها مضطرة إلى مفاوضة إسرائيل مباشرةً، غير أنّ المكتب السياسي لحماس سارع إلى إصدار بيان مقتضب أكّد أنّ المفاوضات المباشرة مع العدوّ الصهيوني ليست من سياسة حماس، "وليست مطروحة في مداولاتها، وهذه هي السياسة المعتمدة في الحركة".
وتخشى سلطة حماس في غزة تزايد النقمة الشعبية الناجمة عن الحرمان والحصار وانسداد الأفق. ولكن، إذا انفجر القطاع، فإنّه لن ينفجر في وجه حماس وحدها، بل في وجه إسرائيل ومصر أيضًا. ولهذا، تتقاطع مخاوف إسرائيل من انفجار القطاع مع مخاوف حماس، ما يجعل إسرائيل أكثر براغماتية من الإدارة المصرية، أسيرة الصراع الداخلي مع "الإخوان المسلمين" في تعاطيها مع موضوع الحصار.
دوافع إسرائيل
تتلخص الدوافع الإسرائيلية في غياب أيّ خيارات واقعية للتعامل مع قطاع غزة؛ فحصار ثماني سنوات، وثلاثة اعتداءات وحشية مدمرة في السنوات الستّ الأخيرة، كلّ ذلك لم يؤدّ إلى سقوط حماس، ولا إلى انتفاضة شعبية ضدّها. بل إنّ حماس أثبتت أنّها خرجت أقوى بعد كلّ معركة مع إسرائيل، وصواريخها اليوم تغطّي الدولة العبرية، من أقصاها إلى أقصاها، كما اتّضح ذلك في عدوان صيف العام الماضي، وأيّ حرب معها اليوم ستكون مكلفة جدًا. وأمام هذه المعضلة، إذا أرادت إسرائيل أن تدمّر قدرات القطاع التسليحية والعسكرية، فإنّه لن يكون أمامها إلّا احتلاله كليًا، ما قد يقود إلى حرب شوارع في مناطق مكتظة سكانيًا، فضلًا عن كلفته العالية جدًا بالنسبة إلى إسرائيل نفسها، إضافةً إلى أنّ الاحتلال سيجعل إسرائيل مسؤولة عن القطاع المدمَّر، وعن حاجات سكانه. ولأنّه ليس من مصلحة إسرائيل، كما سبقت الإشارة، حدوث فراغ قيادي في القطاع، إذ قد يعني ذلك تمدّد تنظيمات متطرفة من النوع الذي لا يلقي بالاً لحسابات سياسية وعسكرية، فإنّ إسرائيل قد تجد نفسها، هي الأخرى، مضطرة إلى الدخول في هدنة موقّتة مع حماس، خصوصًا وأنّ ثمة سوابق لذلك، كما في الأعوام 2008، و2012، و2014.
يبقى سبب ثالث، في ظل الإشارات التي تطلقها حماس عن وجود جنود إسرائيليين أسرى لديها، أحياء كانوا أم أمواتًا، وقد تكون إسرائيل تريد بدء مفاوضات لتحديد مصيرهم، والإفراج عنهم أو استلام رفاتهم.
دوافع متقاطعة
يبرز في الدوافع المشتركة الخوف من تمدّد تنظيم "الدولة الإسلامية" في فضاء المنطقة العربية، وتصاعد التهديد الذي يمثّله لجميع الأطراف المعنية، بما فيها الولايات المتحدة، والاتحاد الأوروبي، وإسرائيل ومصر من ناحية، وحماس من ناحية أخرى؛ فـالتنظيم يقترب اليوم من حدود فلسطين التاريخية، عبر البوابتين السورية، في الشمال، والمصرية عبر سيناء جنوبًا. بالنسبة إلى حركة حماس التي تسيطر على قطاع غزة، يمكن أن يمثّل تنظيم الدولة تحدّيًا حقيقيًا لوجودها وسيطرتها، خصوصاً بعد التهديدات الأخيرة التي أطلقها التنظيم بحقّ حماس وإعلانه نيّته إسقاط حكمها في القطاع. وتتضاعف مخاوف حماس من محاولات تنظيم الدولة استدعاء عدوان إسرائيلي جديد على غزة، عبر إطلاق أفراد محسوبين عليه صواريخ على إسرائيل.
ويبدو أنّ التقدير الإسرائيلي قائم، أيضاً، على أنّ بقاء حماس مسيطرةً على الأوضاع في القطاع، في غياب أيّ وجود للسلطة الفلسطينية هناك، هو أهون الشرّين؛ فإضعاف حماس اليوم سوف يعني تمددًا لـ"داعش" وتنظيمات أخرى صغيرة، لا تملك حسًا بالمسؤولية والعقلانية، في حين أنّ حماس أثبتت عبر سنوات حكمها غزة، أنّها، وإن كانت ترفض الاعتراف بإسرائيل، وتصدّت لثلاث حروب إسرائيلية رئيسة على قطاع غزة، وهي مستمرة في مقاومتها لها، غير أنّها تدرك حدود اللعبة وقواعدها، وتحديدًا في ما يتعلق بمصير ما يقارب المليوني فلسطيني في قطاع غزة، ممّن يحتاجون إلى الأمن والاستقرار، وإعادة إعمار ما دمّرته إسرائيل على مدى السنوات الماضية.
الحسابات نفسها حاضرة لدى مصر؛ فالهجمات الدامية التي تشنّها "ولاية سيناء"، التابعة لتنظيم الدولة، منذ أشهر، ضد قوات الأمن والجيش المصريَين في سيناء، قد تكون دفعت صانع القرار المصري إلى استنتاج أنّ حماس قوية في غزة، قد تكون مصلحة مصرية في هذه المرحلة، من دون أن يعني ذلك أنّ حماس لم تعد "عدوًا" للنظام الحاكم في مصر وهدفًا له، ومن دون أن يتنازل كليًا عن الاستمرار في اتهام قطاع غزة بما يجري في سيناء، لأهداف ديماغوغية. كما أنّ مصر لا ترغب في فقدان ورقة القطاع دوليًا. وهي قلقة من تحرّك حماس الدولي من خارج القنوات المصرية، وقد يدفعها هذا إلى طلب التفاهم بالحد الأدنى مع حماس.
وقد يكون في إلغاء محكمة مصرية، مطلع الشهر الماضي، بطلبٍ من الحكومة المصرية، حكمًا بعدّ حماس حركة إرهابية، إشارة إلى ذلك. ولا يستبعد أن يكون قرار النظام المصري، أخيراً، فتح معبر رفح، غير مرة أياماً، بعد أشهر من إغلاقه، جاء ضمن السياق نفسه. وكان إسماعيل هنية تحدّث، قبل أيام، عن حدوث انفراجة في العلاقة بين حماس والسلطات المصرية، مشيرًا في هذا السياق إلى أنّ هذا الانفراج "ساهم في تغيير الوضع الإنساني في غزة". تكمن أهمية تصريح هنية عن العلاقة مع مصر في توقيته الذي جاء بعد الهجوم الكبير الذي شنّته "ولاية سيناء"، وأودى بحياة عشرات العسكريين المصريين مطلع شهر يوليو/تموز الجاري.
في السياق الأميركي، تسعى واشنطن إلى توحيد كلّ الجهود في المنطقة لمحاربة "داعش". وعليه، فإنّها قد لا تكون راغبة في فتح جبهة عسكرية أخرى بين إسرائيل وقطاع غزة قد تؤثّر في تماسك التحالف الدولي، والذي يضمّ دولًا عربية وتركيا. وربّما يفسر هذا مباركتها جهود التوصّل إلى هدنة. أمّا أوروبيًا، فثمة تخوّف من انفجارٍ في غزة، قد يدفع آلاف اللاجئين إلى الهجرة إليها بحراً.
خلاصة
بناءً على ما سبق، تمثّل الهدنة المقترحة مصلحةً مشتركة لجميع الأطراف، خصوصاً حماس وإسرائيل. فإن تمّت الهدنة، لن تضطر حماس إلى الاعتراف بإسرائيل والتخلّي عن سلاحها، وهي ترفض تحويل الهدنة إلى تفاوض سياسي. وإذا ما تضمنت شروط الهدنة ميناءً بحريًا، فإنّ هذا سيحرر حماس وقطاع غزة، جزئيًا من الحصار والابتزاز السياسي الذي يرافقه. وبالنسبة إلى إسرائيل، تتيح الهدنة لها هدوءًا على حدودها الجنوبية، وتقلّص إمكانية وقوع انفجار في غزة، جرّاء الحصار والأوضاع الإنسانية المزرية فيها. سيكون التوصّل إلى هدنة مصلحة مشتركة للجميع، للتصدي لخطر "داعش" والتيارات المرتبطة به. غير أنّ كلّ ما سبق لا يعني أنّ الهدنة حتمية أو وشيكة؛ فمواقف الأطراف المختلفة وحساباتها المتناقضة قد تجعل التوصّل إلى هدنة أمرًا صعبًا؛ فقبول إسرائيل بقاء سلاح المقاومة في قطاع غزة لن يكون سهلاً، كما أنّ قبول حماس بالتخلّي عنه مستحيل، فضلًا عن أنّ السلطة الفلسطينية لن تنظر إلى مثل هذا الأمر بعين الرضى، وقد صدرت بوادر احتجاج على ما عُدّ اتصالات جارية بين حماس وإسرائيل، ومن ثمَّ فإنّها قد تسعى إلى إفساده. الأهم من ذلك كلّه، أنّه بموجب التجربة مع بلير بوصفه مبعوث الرباعية قد تتمخض الاتصالات عن محاولةٍ لاحتواء حماس، بضمّها إلى "مسيرة السلام" في حلّ قضايا معيشية للقطاع أساساً، ولا يمكن الركون إلى أيّ وعود إسرائيلية؛ فتجربة عقود معها تثبت أنّها لا تلتزم عهدًا ولا ميثاقًا.
No comments:
Post a Comment