عبد الباري عطوان
"اقدم الرئيس محمود عباس علي مقامرة خطيرة بدأت تعطي نتائج عكسية تماما، عندما قرر الدعوة الي انتخابات رئاسية وتشريعية في الخطاب الذي القاه يوم امس الاول، فقد تحولت الاراضي العربية المحتلة في الضفة والقطاع الي ساحة مواجهات بين انصار حركتي فتح و حماس اسفرت حتي كتابة هذه السطور عن مقتل اثنين واصابة عشرين آخرين.
حركة حماس رفضت خطوة السيد عباس هذه واعتبرتها غير شرعية، وفعلت الشيء نفسه فصائل فلسطينية اخري مثل الجهاد الاسلامي والجبهتين الشعبية والقيادة العامة علاوة علي لجان المقاومة الشعبية، ولم تؤيدها الا مجموعة من الشخصيات الفلسطينية القريبة من مكتب الرئاسة مثل السيد ياسر عبد ربه وقيادة حزب الشعب (الشيوعي سابقا) بالاضافة الي قيادات في حركة فتح .
السيد عباس كان مترددا في الدعوة الي الانتخابات، ويتضح ذلك من عدم تحديد موعد محدد لاجرائها، وكأنه يريد من خلالها ممارسة ضغوط علي حركة حماس للعودة الي مفاوضات تشكيل حكومة وحدة وطنية فلسطينية، ولكن حساباته جاءت خاطئة تماما، لان دعوته هذه اجهزت علي كل بارقة امل في استئناف الحوار وأحدثت قطيعة ربما تتطور الي حرب اهلية دموية تمتد لأشهر ان لم يكن لسنوات.
وجاء التأييد الثلاثي، الاسرائيلي الامريكي البريطاني، لمقامرة السيد عباس هذه ليزيد من حراجة موقفه، وتعقيد مهمته، واثارة الشكوك وعلامات الاستفهام حولها، وبما يعزز من موقف خصومه في حركة حماس علي المديين المتوسط والبعيد. فالشعب الفلسطيني لا يثق بهذا المثلث الذي لدغ منه اكثر من مرة، وما زال يعاني من مؤامراته، ويقف في معظمه في الخندق المقابل دون تردد.
حركة حماس مصيبة في رفضها لأي انتخابات جديدة، واصرارها علي عدم شرعية هذه الخطوة التي تهدف الي الإطاحة بحكومتها والغاء نتائج الانتخابات التشريعية الاخيرة التي فازت فيها. فما فائدة خوض انتخابات جديدة والفوز فيها اذا كانت ستؤدي الي النتيجة نفسها اي استمرار الحصار التجويعي علي الشعب الفلسطيني، والمقاطعة الغربية وبعض العربية للحكومة الجديدة؟ فهل يصبح حال الشعب الفلسطيني مثل حال الشعب العراقي، اي الذهاب الي صناديق الاقتراع مرتين او ثلاث مرات في العام مرة من اجل الانتخابات المؤقتة، ومرة ثانية من اجل استفتاء علي الدستور ومرة ثالثة لانتخاب برلمان دائم، ويكتشف بعدها ان كل هذه الانتخابات لم تحقق له غير الحرب الأهلية الدموية، وانعدام الأمن واستفحال الفساد وغياب الخدمات؟
السيد عباس اكد علي الخيار الديمقراطي للشعب الفلسطيني، وقال ان هذا الشعب هو مصدر السلطات، وهذا صحيح وكلام دقيق، ولكن الشعب قال كلمته قبل اقل من تسعة اشهر، وصوّت ضد الفساد والتفريط، ولا نعتقد ان اي انتخابات جديدة وبعد حصار خانق، وتعمّد حجب الرواتب، ستكون شرعية وتعبر عن مواقف هذا الشعب الحقيقية.
الجائع المحروم الذي لا يستطيع شراء رغيف الخبز لأطفاله لا تجوز شهادته، مثلما لا تجوز مشاركته في الانتخابات لانه سيصوت بمعدته، وربما كان هذا هو الهدف الحقيقي الذي ارادته اسرائيل والدول المانحة عندما اوقفت صرف مساعداتها للشعب الفلسطيني عقابا له علي انتخاب حركة حماس .
كنا نتمني لو ان السيد عباس قد بدأ بممارسة الديمقراطية في اوساط اهل بيته الفتحاوي، من خلال عقد مؤتمر عام للحركة، لانتخاب مجلس ثوري جديد ولجنة مركزية جديدة، لان جميع مؤسسات الحركة الحالية التي تتحكم في دائرة صنع القرار فيها قد شاخت، وتحتاج الي تجديد وضخ دماء جديدة، فمن غير المنطقي ان تهيمن علي الحركة وقيادتها الوجوه نفسها التي كانت تتصدر صفوفها الاولي في الفاكهاني وتونس واخيرا رام الله.
اننا نخشي علي حركة فتح من خطوة عباس هذه اكثر من خشيتنا علي حركة حماس نفسها، لان الحركة التي قادت النضال الفلسطيني لاكثر من ثلاثين عاما وقدمت آلاف الشهداء وآخرهم ياسر عرفات، مهددة بالانشقاق والتفسخ، وشاهدنا بوادر ذلك في وجود السيد فاروق قدومي امين سر لجنتها المركزية يقف جنبا الي جنب في دمشق مع السيد خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحركة فتح والدكتور رمضان عبد الله شلح امين عام حركة الجهاد الاسلامي، والسيد احمد جبريل قائد القيادة العامة والسيد ماهر الطاهر عضو المكتب السياسي في الجبهة الشعبية، وهو التجمع الجديد الذي رفض خطوة السيد عباس في الدعوة الي انتخابات رئاسية وتشريعية مبكرة ويعتبرها انقلابا علي الشرعية.
وعندما يسخر السيد عباس من بعض قيادات الخارج الذين يعيشون في غرف مترفة، ولم يغبروا احذيتهم بالتراب الفلسطيني، فإنه يدين نفسه قبل ان يدين اكثر من ثمانية ملايين فلسطيني يعيشون في المنافي مكرهين، فقد نسي السيد عباس انه كان احد هؤلاء حتي الأمس القريب، ولم يعد الي الوطن الا علي ظهر اتفاقات اوسلو التي جاءت تفريطا بالحقوق الفلسطينية، وقادت الي المزيد من الاستيطان والجدران العنصرية وكسر العزلة عن الدولة العبرية عربيا وعالميا.
حركة حماس تتحمل جانبا من مسؤولية تدهور الاوضاع، عندما دخلت عملية سياسية محكومة النتائج، خرجت من رحم الاحتلال واتفاقات اوسلو، ولكنها ليست مسؤولة عن الحصار المالي والتجويعي، ولا عن الفلتان الأمني، لانها استلمت خزائن خاوية، وحكومة مديونة باكثر من ملياري دولار، وفلتانا امنيا في ذروته بسبب تعدد الأجهزة وفساد رؤوسها، وتعاون بعضها مع الاسرائيليين وأجهزة استخبارات اجنبية، مثلما اكد اكثر من مرة اللواء نصر يوسف وزير الداخلية الأسبق وعضو اللجنة المركزية في حركة فتح .
المخرج من المأزق الدموي المتفاقم الذي ينجرف اليه الشعب الفلسطيني بسرعة مذهلة، هو حل هذه السلطة العفنة التي اصبحت عبئا علي هذا الشعب ونضالاته، لانها قلبت الأولويات الفلسطينية رأسا علي عقب، وحرفت النضال الفلسطيني عن وجهته الحقيقية اي تحرير الارض الي الاقتتال الداخلي.
فأي سلطة هذه التي يتعرض رئيس وزرائها للإهانة في معبر رفح ويجلس مثل المتسول علي الرصيف انتظارا للسماح له بالعبور ومن معه، وعندما يمر يتعرض موكبه لاطلاق النار؟
كنا نتوقع ان يتناطح رأسا السلطة سياسيا وديمقراطيا، ولكن عندما يتحاوران بالرصاص وقذائف ال ار. بي. جي وينسيان العدو الذي يحتل الأرض ويحتجز آلاف الأسري، ويرتكب المجازر بشكل يومي، فإن هذا امر مفاجيء، ويتجاوز كل الأعراف والخطوط الحمراء.
قد يأتي الخير من باطن الشر، نقولها بأسي وحزن، لعل هذا الانهيار يكون بداية الخلاص، وتصحيح الاوضاع، واعادة المسيرة الي مسارها الحقيقي.
الشعب الفلسطيني لا يستحق هذا الهوان الذي يلحق به علي يد ابنائه، بعد كل هذه التضحيات التي قدمها طوال المئة عام الماضية."
No comments:
Post a Comment