Sunday, November 30, 2008

غضب مصري في المكان الخطأ


غضب مصري في المكان الخطأ

عبد الباري عطوان

"من يتابع المشهد المصري وتطوراته هذه الايام، يخرج بانطباع راسخ مفاده ان البلد يبدو وكأنه مجرد جسم كبير بلا رأس، واذا وجد هذا الرأس، فإنه بلا رؤية، ولهذا تسير الاوضاع نحو الاسوأ بشكل متسارع مثل شاحنة ضخمة بلا كوابح.
الدور المصري بات محصورا في امرين اثنين:
الاول: كيفية التنكيل بالفلسطينيين في قطاع غزة، وتحويل حياتهم الى جحيم لا يطاق، من خلال تشديد إحكام الحصار، ومنع الحجاج والمرضى من السفر. والثاني: الايعاز للصحف الرسمية بشن هجمات اعلامية شرسة ضد هذه الدولة العربية او تلك، لأنها تجرأت على انتقاد السياسة المصرية بلطف، او ترشحت، او تنافست على دور يمكن ان يهدد مكانة مصر في محفل دولي او اقليمي.
....
ما لا يدركه المتحدثون باسم النظام المصري، وبعض اوساطه الاعلامية الرسمية، ان الخلل ليس في الآخرين، وانما في النظام نفسه، الذي تخلى عن دوره، ومكانة بلاده، للآخرين طوعا، وبطريقة مريبة، فلا احد يجرؤ ان يسطو على دور مصر، لسبب بسيط وهو ان هذا الدور غير موجود اصلا. فالنظام المصري انسحب من دائرة الفعل العربي والاقليمي والدولي منذ زمن، بل انسحب من دائرة الفعل الداخلي، وترك البلاد ساحة مفتوحة لحيتان رجال الاعمال ومافياتهم لنهب ثرواتها، وممارسة كل اشكال البلطجة التي رأينا احد فصولها في جريمة قتل المطربة اللبنانية سوزان تميم. ولولا ان حكومة دبي اصرت على كشف كل الملفات والمتورطين، لما سمعنا بالجريمة مطلقا، ولبقيت طي الكتمان تماما مثل جريمة مقتل المطربة التونسية ذكرى.
وليت هذا النظام المصري اكتفى بالانسحاب من المنطقة سياسيا وعسكريا وثقافيا واعلاميا فقط، بل مارس عملية تدمير ممنهجة لحلفائه الطبيعيين، مما ترك فراغا، سارعت دول اقليمية غير عربية لملئه فورا، وبطريقة فاعلة. فقد تواطأ مع امريكا ودول خليجية على تدمير العراق، وتحالف مع المملكة العربية السعودية من اجل إحكام عزلة سورية العربية، والتقى مع اسرائيل من اجل خنق المقاومة الفلسطينية، وتدجينها، سواء بتفجير الانفاق، واغلاق المعابر، او بالانحياز بالكامل الى الطرف المستسلم الخانع المتعيش على فتات المساعدات الامريكية والغربية، والذي يعتبر هذه المقاومة عبثا وارهابا.
فليس من قبيل الصدفة ان يتدخل النظام المصري لفتح معبر رفح لبضع ساعات، او لايام في كل مرة تتصاعد فيها ازمة الحصار، وتبدأ في لفت الانظار، او يلجأ الى تنفيس الحملات الاعلامية المصرية، والعربية، والدولية التي تعكس معاناة مليون ونصف مليون فلسطيني يواجهون الجوع والموت من نقص الوقود والغذاء والأدوية، وذلك بالعمل كوسيط لانقاذ اسرائيل، وانقاذ نفسه، بسبب تعاظم حالة الغليان الشعبي المصرية والعربية، وفتح المعابر الاسرائيلية لمدة ساعات معدودة، لامتصاص هذه الحالة، وافساد جهود المعارضة المصرية لتنظيم المسيرات وقوافل الدعم لأشقائهم المحاصرين.

الامن القومي المصري لا يتهدد في نظر هذا النظام وفقهائه الا من قبل جيّاع قطاع غزة فقط، فهؤلاء يستحقون كسر ارجلهم، ورقابهم، اذا عبروا المعبر بحثا عن لقمة خبز او شراء علبة حليب لاطفالهم،
....
مصر، وباختصار شديد، بحاجة الى انتفاضة، سواء من داخل الحكم او خارجه، تعيد لها مكانتها واحترامها، انتفاضة ترتقي الى مستوى شعبها وامكانياته وتضحياته وابداعاته، وتعيدها الى دائرة الفعل كقوة اقليمية كبرى لها رأي في الصراع العربي ـ الاسرائيلي وامن الخليج، وازمات القارة الافريقية، حوضها الخلفي، وتفاقم الوضع في العراق والأزمة الاقتصادية العالمية، قوة تنافس النفوذين الايراني والتركي، وتتصدى للغطرسة الاسرائيلية التي تهدد الامن القومي المصري فعلا.
عندها ستحتل مصر مقعدها في قمة الدول العشرين الاقتصادية، ممثلة ليس للعرب فقط بل وللمسلمين، وستحسب لها القوى العظمى والقوى الاقليمية الف حساب. فمصر اكبر من ان ينحصر دورها في معبر رفح، واغلاق الحدود في وجه الحجاج والمرضى، ولعب دور ساعي البريد لنقل الطلبات الاسرائيلية لتكريس التهدئة، او الوساطة في ملف الجندي الاسرائيلي الاسير جلعاد شاليط
."

No comments: