مصيدة الانتخابات: العراق وفلسطين
عبد الباري عطوان
"لم يكن من قبيل الصدفة ان تحرص الادارة الامريكية الحالية علي اجراء انتخابات عامة، حرة ونزيهة، في بلدين ولشعبين تحت الاحتلال، في العراق وفلسطين، وتغض النظر كلياً عن ديكتاتوريات متجذرة ومتبحرة في قمعها لشعوبها في معظم الدول العربية الأخري. فالأهداف الامريكية بدأت تتكشف في انصع صورها الآن، بعد خمس سنوات علي احتلال العراق، وثلاث سنوات تقريباً علي اغتيال الرئيس الراحل ياسر عرفات مسموماً.
الاصرار الامريكي علي الاستفتاء الشعبي علي الدستور العراقي اولاً، ثم اجراء انتخابات عامة لاختيار برلمان منتخب، وحكومة تتمتع بالأغلبية فيه، لم يكن من منطلق الحرص علي الشعب العراقي، وتمتعه بالحريات، وتحسين ظروفه المعيشية، وانما لجر هذه الحكومة، ومن ثم البرلمان، لتشريع المعاهدة الأمنية، التي تنص علي اقامة قواعد عسكرية امريكية دائمة في العراق، واحكام سيطرة الشركات الامريكية علي ثروات العراق النفطية، من خلال القانون الجديد المتعلق بالاستكشافات وعمليات التنقيب عن النفط.
الادارة الامريكية تريد ان تعقد معاهدة أمنية مع حكومة عراقية منتخبة، ويصادق عليها برلمان منتخب، ولهذا عملت منذ الأشهر الأولي لاحتلالها علي التمهيد لهذه الخطوة، بكل الطرق والوسائل، وبما يؤدي الي وصول رجالاتها الذين جاءوا مع قواتها من الخارج الي دائرة صنع القرار
.....
من الصعب الانحياز الي هذا الرأي او ذاك، بسبب حالة التكتم الشديد حول هذه المسألة، وغياب أي مرجعيات فلسطينية دستورية يمكن ان تراقب او تضبط ايقاعها وفق المصالح الوطنية، فالمجلس الوطني الفلسطيني مغيب بالكامل، والمجلس التشريعي معطل ونصف اعضائه في المعتقلات الاسرائيلية، ومنظمة التحرير ومؤسساتها ماتت وتحللت، والأمور كلها في يد رجل واحد اسمه محمود عباس وثلاثة اشخاص يحيطون به، ولا يعلم احد غيرهم ماذا يطبخون للشعب الفلسطيني مع اصدقائهم الاسرائيليين.
قنابل دخان عديدة جري اطلاقها في الأيام الأخيرة من قبل انصار التسوية، والمقربين الي رئاسة السلطة في رام الله، اولاها من السيد ياسر عبد ربه الذي كرر اكثر من مرة نوايا السلطة بالانسحاب من المفاوضات بسبب الاستيطان المتسارع في القدس والضفة الغربية المحتلتين. ثم جاء الدكتور سري نسيبة شيخ الليبراليين الفلسطينيين وأحد رواد المفاوضات المباشرة والغاء حق العودة باعتباره غير عملي، ليحرض الولايات المتحدة وأوروبا علي وقف المساعدات المالية للسلطة لأنها تأتي تمويلاً للاحتلال الاسرائيلي، وتشجيعاً علي الفساد، أما السيد سلام فياض رئيس الوزراء الفلسطيني المؤقت (احتفل قبل أيام بمرور عام علي تشكيل وزارته) فقد هدد بالأمس بوقف الخطة الأمنية وسحب القوات الفلسطينية من نابلس اذا استمرت التوغلات الاسرائيلية فيها وما يتبعها من اعتقالات واغتيالات للنشطاء الفلسطينيين.
تهديدات عديدة من اكثر من مصدر، ولكن لا تنفيذ لأي منها عملياً، فهل هذه التهديدات للاستهلاك المحلي، وامتصاص غضبة الشارع الفلسطيني، أم انها للضغط علي الأوروبيين والأمريكان للتدخل لإنقاذ المفاوضات، او تذليل ما يقف في طريقها من عقبات بسيطة، وصولاً الي بلورة الاتفاق النهائي؟
الرئيس عباس أكد لنا بالأمس ان الفلسطينيين يخوضون مفاوضات صعبة وشاقة مع الجانب الاسرائيلي وبشرنا بأن نتيجة هذه المفاوضات ستعرض علي الشعب الفلسطيني للاستفتاء العام .
حديث الرئيس عباس عن الاستفتاء العام يبث الرعب في قلوبنا، لأنه يوحي بأن الاتفاق وشيك، وإلا لماذا القاء هذه القنبلة، وبعد اللقاء الذي عقده مع نظيره الاسرائيلي شمعون بيريز في مقر الأخير في القدس المحتلة؟ ثم كيف سيجري هذا الاستفتاء في ظل الانقسام الفلسطيني الراهن، واغلاق كل قنوات الحوار بين طرفي المعادلة السياسية الفلسطينية الأبرز أي حماس و فتح !
الاستفتاء العراقي جاء بدستور يقسم العراق علي أسس طائفية وعرقية تحت مسمي الفيدرالية، وحكومة تتفاوض حالياً علي رهن العراق وثرواته وسيادته في اطار اتفاقية أمنية مع الولايات المتحدة تمتد لعقود قادمة. فبماذا سيأتي الينا الاستفتاء الفلسطيني الموعود، في ظل الضعف العربي، والانقسام الفلسطيني، وغياب المؤسسات الشرعية، غير اتفاق مسخ يفرط بكل الثوابت الفلسطينية او معظمها وخاصة حق العودة واستعادة القدس المحتلة؟
"
No comments:
Post a Comment