Tuesday, November 9, 2010

عن حركة تحرر وطني تعادي العلمانية وتستخفّ باليسار!../


ماجد كيالي

"ثمة ظاهرة لافتة توطّنت منذ البداية في جسم الحركة الوطنية الفلسطينية، وفكرها،وهي ظاهرة العنجهية والتعميم و"الأستذة"، على رغم أن هذه الحركة تفتقد المواردالذاتية، وشعبها منتشر في بقاع الدنيا، يعاني ويلات الاحتلال والحرمان من الهوية،والخضوع لسلطات متعددة ومختلفة، وعلى رغم أنها أحوج ما تكون الى استقطاب التعاطفمعها، عربياً ودولياً، للتعويض عن مكامن ضعفها، ولمواجهة عدوها الذي يتمتع بشبكةدعم دولية واسعة.

في مرحلة سابقة انطلت على هذه الحركة فكرة أنها "طليعة الثورة العربية"، وأن "الكفاح المسلح" ليس فقط سيحرر فلسطين، وإنما سيغير الأوضاع في هذه المنطقة أيضاً. فهو ليس ضد الصهيونية فحسب، وإنما ضد الامبريالية والرجعية أيضاً! وفي مرحلة لاحقةاعتُبرت الانتفاضة بمثابة مقدمة للنهضة العربية الحديثة، حتى أن بعض المفكريناعتبرها بمثابة انتفاضة ضد العولمة أيضاً!

في المحصلة، هذه الادعاءات لم تثبت في حيز التجربة، وتبيّن عدم صحتها،فالفلسطينيون شعب صغير وممزق ولا يسيطر على حياته، ولا يعتمد في نضاله على موارده؛مع أن قضيته محورية عند القوميين ومقدسة عند الإسلاميين، وتحظى بأهمية دولية (بسبباليهود الإسرائيليين). أيضاً، حمّلت ادعاءات كتلك الفلسطينيين ما فوق طاقتهم،وأدخلتهم في صراعات جانبية استنزفتهم، وأضرّت بقضيتهم، فضلاً عن إصابتها اياهمبعدوى العنجهية والوصاية على الأحزاب العربية (كما حصل في تجربة لبنان مثلا).

الأنكى أن معظم قادة هذه الحركة لم يتعلموا من مسيرتهم المؤلمة والباهظة، ولميستنبطوا العبر من إخفاقات تجاربهم الكفاحية، سواء المسلحة أو التفاوضية، وفيالمنظمة أو السلطة. وكلها بيّنت تدني مستوى إدارتهم للعمل الوطني. ويبدو أنهم مازالوا، على رغم تدهور أحوال شعبهم وقضيتهم وحركتهم الوطنية، تأخذهم العنجهية. هكذا،في أسبوع واحد كان المشهد الفلسطيني على موعد مع تصريحات لا داعي لها، فضلاً عنأنها تنم عن جهل مطلق بالمفاهيم وبحركة التاريخ.

فقد أدلى محمود الزهار (القيادي في "حماس")، بتصريحات (29/10) هاجم فيهاالعلمانية والعلمانيين والدول الغربية، في تعميمات مطلقة، في وقت تعاني إسرائيل منعزلة، وضغوط دولية، لدفعها لوقف الاستيطان والتجاوب مع حقوق الفلسطينيين. ومماقاله: "من حقنا أن ندير حياتنا بالطريقة التي يحددها ديننا وليس دينكم. أنتم لا دينلكم. أنتم علمانيون... لا تعيشون كبشر. بل إنكم (حتى) لا تعيشون كالحيوانات. تقبلونالمثلية... والآن تنتقدوننا... نحن من يحترم النساء ويقدّرهن... وليس أنتم... انتمتستغلون النساء كالحيوانات. للمرأة زوج واحد ومئات الآلاف من العشاق. أنتم لاتعلمون من هم آباء أبنائكم".

هكذا اختلطت الأمور، فاعتبر الزهار العلمانية ضد الدين، وهي ليست كذلك، مثلماإنها ليست وصفة جاهزة، وإن تضمنت عدم قبول توظيف الدين بالشأن السياسي (أي لأغراضالسلطة)، وترك إدارة شؤون البلاد للقوانين الوضعية باعتبارها شأناً دنيوياً. وهوتيار ظهر في وجه السلطات الكنسية والملكية المطلقة والمستبدة في الغرب، علماً أنمعظم الدول العلمانية تحترم الدين ولا تتدخّل بالحيز الديني لمجتمعاتها، بما فيهأديان الأقليات التي تعيش بين ظهرانيها. كذلك خلط الزهار بين نقد الآخرين لكيفيةإدارة حركته الأحادية والاقصائية لقطاع غزة، وبين ما اعتبره تدخلاً في شؤونالناس.

وبغض النظر عن هذا الجدل، فمعظم المجتمعات الغربية علمانية، بهذا المستوى أوذاك، والفلسطينيون هم الذين بحاجة الى دعمها في كفاحهم ضد الصهيونية والممارساتالإسرائيلية، فهل سيواجهون الادعاءات الدينية ("التوراتية") لإسرائيل في الغرببالايدولوجيا الدينية، وبإظهار الصراع وكأنه ليس على الأرض والحقوق وإنما هو صراعديني وسماوي وأبدي؟ ثم هل هكذا تصدّ الحركة الوطنية الفلسطينية مطالب إسرائيلبالاعتراف بها كدولة يهودية؟

أيضاً، كان الأجدى لحماس، التي تتعرض لحصار كونها حركة إسلامية ومتطرفة، أنتتجنب نقاشات مضرة كهذه، وأن توضح نفسها كحركة تحرر. أما النقاش بشأن العلمانيةفنقاش فلسفي وثقافي، ويفترض انه مجال للتجاذب الداخلي بين التيارات الفلسطينية،وليس له علاقة لا بمهاجمة الغرب ولا بتصنيف أخلاقه، وتوصيف نمط حياته. علماً أناتهام الغرب باللاأخلاقية ينم عن جهل وسطحية وانتقائية، فمن هذا الغرب بات الشعبالفلسطيني يستمد قدرته على الاستمرار في مواجهة العنصرية وجرائم الحرب والاستعماريةالإسرائيلية، وإلا ما معنى نشوء شبكات المتضامنين الدوليين، وحملات المقاطعةالدولية، وأساطيل الحرية، والحملات الإعلامية في الفضائيات وشبكات الانترنت؟

التصريح الآخر كان لعزام الأحمد، أحد قادة "فتح" (منافسة "حماس")، والذي تضمنتهكماً واستخفافاً بقوى اليسار الفلسطينية. وكان حرياً بالأحمد، بدل ذلك، أن يتخوّفعلى وضع حركته "فتح"، التي وصلت إلى هذا الدرك من ترهل بناها، وغياب مرجعيتهاالسياسية، فضلاً عن إخفاق خياراتها، سواء في الانتفاضة أو المفاوضة، كما في بناءالمنظمة أو السلطة. ويبدو أن الأحمد نسي أن حركته، وعلى رغم ما تتمتع به من قوىعسكرية ومادية، وعلى رغم هيمنتها على الساحة الفلسطينية بمنظمتها وسلطتها ومواردها،خسرت الانتخابات التشريعية وقطاع غزة بصورة مهينة (2006-2007) من دون أن تراجع ماحصل.

وما يلفت الانتباه في تلك التصريحات أنها تنم عن ضعف شعور بالمسؤولية، وجهلبالواقع. فلو تمعن الأحمد في الأمر لتبين له أن احتكار حركته لقيادة الساحةالفلسطينية، وتخلف إدارتها، واعتمادها على الزبائنية والفساد، هي التي أدت إلىخسارتها مكانتها وصعود "حماس". بمعنى أن قيادة "فتح" هي التي تتحمل المسؤولية عنالتمحور المضرّ بينها وبين "حماس"، وعن تدهور دور اليسار، وتدهور "فتح" ذاتها.

فأين هي "فتح"، التي كانت في ما مضى تشبه فعلاً شعبها، وتستمد روحها من التنوعوالتعددية داخلها؟ ثم ألم تفقد "فتح" روحها، وجزءاً كبيراً من حيويتها، بسبب تحولهاحركةً لتيار واحد، هو تيار السلطة والتسوية، لا سيما بعدما باتت تفتقد تيار اليسارالذي كان يضفي عليها حيوية فكرية وسياسية؟

عدا ذلك، ثمة حقاً ما يثير الاستغراب إزاء هذا التنكّر، وهذا القصر في الذاكرة،لمن عايشوا التجربة الفلسطينية من بداياتها (كالأحمد)، إذ لا يمكن أحداً أن يفسرصعود "فتح"، من الستينيات إلى الثمانينيات، من دون أن يربط ذلك بنهوض اليسار الدولي،والأحزاب الشيوعية، وبمعين من الاتحاد السوفياتي.

وربما كانت تصريحات كهذه (من الزهار والأحمد) من علامات تدهور الساحةالفلسطينية، وفقرها وضياعها السياسي والفكري. ولنتذكر أنه في زمن مضى، فإن آباءالحركة الوطنية الفلسطينية، من الحاج أمين الحسيني (المفتي)، مروراً بأحمد الشقيريوصولاً إلى ياسر عرفات، لم يدخلوا حركتهم الوطنية في مجادلات ثقافوية أو دينية،وعملوا مع علمانيين ويساريين وشيوعيين، على أساس أن "الدين لله والوطن للجميع"، أيعلى أساس التعددية والتنوع باعتبار ذلك الأفضل لوحدة الشعب ومواجهة المشروعالصهيوني
."

No comments: