الياس خوري
A VERY GOOD PIECE
Link
انتهت السنة بمشهد دموي في ضواحي صنعاء؛ علي عبد الله الصالح مضرّج بالدم ومحمول وسط التهليل والتكبير، وهو مشهد لا يختلف عن مشهد مقتل القذافي منذ ستة أعوام، بعدما وقع في كمين مسلح.
لا مكان للفرح بهاتين الميتتين البشعتين، مثلما لم يكن إعدام صدام حسين بيد خصومه يدعو إلى التفاؤل. الطغاة يُقتلون بأيدي طغاة يشبهونهم، ومسلسل الدم لا يتوقف. والثورات المضادة التي حوّلت بلاد العرب إلى ركام، تئد الثورة تحت جثث الضحايا.
واقع تمتزج فيه المأساة بالملهاة؛ كلمات تصفّق بدلاً من أن تحكي، وخراب تصنعه الأصوليات التي تتقاتل، وتعلن زمن اللا أحد. سورية تتحول إلى أرض تستبيحها القواعد العسكرية الأجنبية، والشعوب تتحول من فاعل إلى مفعول به، والوحشية تطفئ الضوء في العيون. منذ البداية كانت الثورات المضادة مختبئة في ثياب الثورة، من مصر المحروسة بالانقلاب، إلى سورية التي اجتمع على شعبها بغاة الأرض كلهم، فتسللوا من شقوق الحلم كي يسدلوا ستاراً من الدم على بقايا مدنها المدمرة، وصولاً إلى ليبيا المجزرة المفتوحة، ويمن الكوليرا والحصارات والطاعون.
بلاد العرب كلها من الصحراء إلى الصحراء تلعق سراب المستبدين. كل استبداد أصولي وكل أصولية استبداد، والمستبد كالأصولي هو المبشر باللا أحد، أي بفراغ لا يملؤه سوى الخراب والدم. هذا ما أعلنه الطغاة العرب وهم يفاجأون بانتفاضات شعوبهم من أجل الحرية، وكان الرد الأصولي الذي تسلل من شقوق عجز الثورات عن إنتاج قيادات تاريخية جرّاء عقود من القمع والخيبة والشلل الفكري، هو التناوب مع الاستبداد على تحويل بلاد العرب إلى ولائم للقتل.
زمن الانقلابيين وقادة الميليشيات وروائح الثروة المستباحة، صنع الثورة المضادة، وقام بتهميش المكانَين الباقيين في ركام الأزمنة: هُمشت فلسطين، بل هناك مَن يبشّر بنهايتها في صفقة قرن لن تكون سوى قبلة الموت لمسار سلام لم يكن في الأساس سوى وهم، كما هُمشت بيروت التي صارت أسيرة نظام طائفي فتك بثقافتها وقام بتحويلها إلى ورقة ترتجف خوفاً من أشباح الحرب الأهلية.
منذ بداية الثورات المضادة التي قادها العسكر والمافيات والأصوليون وموّلتها الثروات العربية المهدورة، تحوّل الموت إلى احتفال. لم يسبق أن كانت المجزرة مدعاة لفخر مرتكبيها كما هي اليوم في بلاد العرب. ليس صحيحاً أن احتفالية الموت كانت حكراً على التيارات الأصولية العسكرية كما يدّعي مَن يسعى لتغطية الجريمة بذاكرة مفقودة، فالاحتفال بالموت العربي بدأ حين استُبيح الناس وهُدمت المدن، من مذبحة شاتيلا وصبرا إلى المذابح الكبيرة والصغيرة في المدن والسجون العربية، في تقاطع مريب بين القاتل الإسرائيلي والقاتل العربي. لكنها بلغت ذروة لا ذروة بعدها في الربيع العربي، كما صاغه مؤخراً المعلق الأمريكي توماس فريدمان في مقالة عجيبة نُشرت في جريدة «نيويورك تايمز» (23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017)، وفيها يتناسى دم العرب المراق كي يحجب الربيع العربي خلف عباءة النفط.
لا تستحق مقالة فريدمان سوى وضعها في سياق اللعبة الأمريكية التي لا ترى في أرض العرب سوى بئر لنفطها من جهة، وتهديد محتمل لإسرائيل من جهة ثانية.
الثورة المضادة التي اجتاحت بلاد العرب وفّرت على الولايات المتحدة تخوفها من أي تهديد عربي لإسرائيل، فقد حوّل المستبدون الحلم العربي إلى كابوس، ونجحوا في لعبتهم الوحشية والدموية في جعل المشرق العربي منطقة لجذب الخراب، فأتت الميليشيات المسلحة من جميع أصقاع الأرض: أصوليون يريدون بعث دولة الخلافة، وأصوليون آخرون يحمون أنظمة مافيوية تسترت بالعلمانية، وفي لقاء الأضداد المتشابهة صارت بلاد العرب ملعباً للقوى الأجنبية.
لم يعد هناك أي خطر عربي على إسرائيل في المدى المنظور، بل هناك لهاث يسعى للتحالف معها بأي ثمن في لعبة الصراع الطائفية المجنونة التي تمزق مجتمعاتنا بالقوة الغاشمة. لذا ليس مستغرباً أن يمتطي دونالد ترامب عُته العرب بعتهه، ويعلن اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى المدينة المنكوبة بالاحتلال الاستيطاني، فالسيد ترامب يتسلق على حبال الوهن العربي، كي يصل إلى ما سعت إسرائيل للوصول إليه منذ احتلالها القدس وبقية فلسطين في سنة 1967.
سيسجل التاريخ أن «الأمريكي البشع»، العنصري الأبيض، اللاسامي في أعماقه، هو شريك اليمين العنصري الإسرائيلي في تأسيس دولة تمييز عنصري كاملة الأوصاف. فاللاسامية في جوهرها لم تكن ضد اليهود إلاّ لأنها ضد المختلف. وكما جسّدت اللاسامية في القرنين التاسع عشر والعشرين المكبوت العنصري البربري في الثقافة الكولونيالية، فإن الإسلاموفوبيا وفوبيا العرب تفتتحان القرن الواحد والعشرين بهمجية تليق بهما، عبر تحويل أرض العرب إلى بحار من الدماء والدموع والألم.
إلى أين تمضي بنا الثورة المضادة؟
لا قعر للقعر، فالثورة المضادة جزء من مدّ يميني صاعد، وجد في رئيس أمريكي متهور ومرتكب وخائف من أن تصل إليه يد القضاء حليفاً لرئيس حكومة إسرائيلية غارق في الفساد ويسعى هو الآخر لتجنّب الإدانة؛ التقى الرجلان في حمى الفساد والفاشية ليجدا في القدس وفلسطين منفداً لحرف الرأي العام في بلديهما وفي العالم عن ملاحقة فسادهما. ولأن العرب في القعر فقد وجد الرجلان في عرب هذه الساعة المنقلبة حلفاء معلَنين أو مضمَرين من أجل شطب الشعب الفلسطيني، والتلاعب بمصير فلسطين والمنطقة، والتعبير عن أحقادهما الكولونيالية. المفاجأة لم تكن خطاب ترامب، ولا الصلف الإسرائيلي الذي صاحبه؛ المفاجأة هي ادعاء الحكام العرب والقادة الفلسطينيين بأنهم فوجئوا. مسألة القدس بالنسبة إلى الثنائي نتنياهو ـ ترامب انتهت من زمان، وجاء الإعلان الأمريكي من أجل إقفال الملف وليس فتحه كما يظن بعض السذّج. الأنظمة العربية تمثل وتكذب، وغداً سيكشف لنا التاريخ أن هذه الصفقة لم تكن ممكنة إلاّ بسبب هوان الأنظمة وتواطئها.
من جهة أُخرى، فإن بعض ردات الفعل اتسم بالسذاجة، ولعل الأكثر سذاجة بينها هو شعار أن القدس عاصمة أبدية لفلسطين. في هذا القول تقليد للمقولة الصهيونية بأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. في الصراع الفكري مع الصهيونية يجب عدم السقوط في فخ خطابها. مجرد استخدام كلمة الأبد هو سقوط في الفكر الغيبي الذي قد يصل بسهولة إلى الفاشية. تذكروا ماذا فعل بنا أبد المستبدين العرب، وإلى أي دمار أوصلنا. ليس هناك لا عواصم أبدية ولا دول أبدية: لا إسرائيل أبدية ولا فلسطين أبدية، فالأبد هو نقيض التاريخ وسقوط في الشعوذة. الصراع ليس على الأبد أو على الماضي، إنه صراع في الحاضر وعلى الحاضر من أجل الدفاع عن عروبة القدس بصفتها لم ولن تكون إلاّ مدينة عربية.
إلى أين نسأل؟
قبل محاولة الإجابة يجب أن نؤكد حقيقة أن القدس، فضلاً عن رمزيتها الثقافية والدينية، هي جزء من الضفة الغربية الفلسطينية التي احتُلت منذ سنة 1967. فصل القدس العربية عن محيطها بالجدار والمستعمرات كان محاولة لطمس هذه الحقيقة. وحين أعلن الرئيس الأمريكي اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنه شرعن احتلال الضفة الغربية بأسرها.
فلسطين هي القدس والقدس هي كل فلسطين
هذه هي الحقيقة الفلسطينية اليوم، وهي حقيقة يجب أن تدفع الفلسطينيين إلى إعادة النظر في مجمل الاستراتيجية الفلسطينية منذ أوسلو وهزيمة الانتفاضة الفلسطينية وما استتبعتاهما من سياسات رضوخ ووهم. قال «الأمريكي البشع» بوضوح لمَن يدّعي أنه لم يفهم أن اللعبة القديمة انتهت، إن مَن يتوسل الحماية الأمريكية لنظامه الاستبدادي المتهاوي عليه أن يدفع الجزية أولاً، ثم يعلن جهاراً أنه جزء من صفقة القرن التي تريد إسدال ستار نهائي ليس على فلسطين وحدها، بل على العالم العربي أيضاً.
إلى أين نسأل؟
سؤال اليوم هو السؤال الذي لم يعد تأجيله ممكناً. منظمة التحرير اكتسبت شرعيتها الفلسطينية والعربية والدولية عندما كانت منظمة الفدائيين. حين كان النضال هو البوصلة كانت فلسطين، وحين يغيب النضال تندثر فلسطين.
أين المقاومون؟
في اللحظة التي سلّمت فيها القيادة الفلسطينية أوراقها لكذبة سلام الاستسلام، وخضعت لإملاءات الرباعية الدولية، وقامت بالتنسيق مع المحتل من أجل تغطية احتلاله، بدأت فلسطين تتشظى وتندثر، وصار وهم السلطة وهناً، وتحوّل الشكل السلطوي إلى صَدَفَة تحمل في داخلها جثة المحارة التي كانت. القدس اليوم هي العنوان، أمّا المتن فهو فلسطين. أهمية خطاب ترامب تكمن في أنه أعلن بشكل رسمي نهاية مرحلة انتهت منذ أعوام. المرحلة التي كانت حبلى بالسراب انتهت. وعلى فلسطين أن تعود إلى الأول كي تبدأ من جديد. والأول هو مشروع تحرر وحرّية، إنه المشروع الذي يحمل اسمين: الدولة الديمقراطية العلمانية و/ أو الدولة الثنائية القومية.
والاسمان هما عنوانان للنضال من أجل الحرية والمساواة: الحرية للفلسطينيين عبر ممارسة حقهم في تقرير المصير وحقهم في العودة إلى بلادهم التي طُردوا منها بالعنف والقتل والتطهير العرقي، والحرية لليهود أيضاً عبر تحريرهم من العنصرية الصهيونية ومن التعالي العنصري كي يعيشوا في وطن واحد مع ضحيتهم في ظل نظام من المساواة.
إنه نضال طويل ومؤلم.
لكن الحرية هي قدر الأحرار، فالشعب الفلسطيني في نكبته المستمرة يقدم احتمال خروج فلسطين ومعها المنطقة العربية من قاع التردي والانحطاط. وهذا يعني أن الشعب الفلسطيني سيكون، كما كان دائماً، وحده في المواجهة التي تحمل في داخلها احتمال تصويب البوصلة العربية، ومنع السفهاء والمنافقين من الاستمرار في لعبة المتاجرة بالأوطان، وفي لعق مبرد الثورة المضادة.
بوصلة العالم العربي لها وجهة واحدة اسمها فلسطين.
هنا، في الأرض المستباحة، يعرف الشعب الفلسطيني ألا خيار له سوى البقاء والصمود والمقاومة. وشوارع الحرية في انتظاره. وهي شوارع تبدأ في القدس وتمتد إلى كل فلسطين، ومنها إلى المشرق العربي.
○ افتتاحية العدد الجديد (113) شتاء 2018 من مجلة «الدراسات الفلسطينية» الذي يصدر أوائل الأسبوع المقبل.
لا مكان للفرح بهاتين الميتتين البشعتين، مثلما لم يكن إعدام صدام حسين بيد خصومه يدعو إلى التفاؤل. الطغاة يُقتلون بأيدي طغاة يشبهونهم، ومسلسل الدم لا يتوقف. والثورات المضادة التي حوّلت بلاد العرب إلى ركام، تئد الثورة تحت جثث الضحايا.
واقع تمتزج فيه المأساة بالملهاة؛ كلمات تصفّق بدلاً من أن تحكي، وخراب تصنعه الأصوليات التي تتقاتل، وتعلن زمن اللا أحد. سورية تتحول إلى أرض تستبيحها القواعد العسكرية الأجنبية، والشعوب تتحول من فاعل إلى مفعول به، والوحشية تطفئ الضوء في العيون. منذ البداية كانت الثورات المضادة مختبئة في ثياب الثورة، من مصر المحروسة بالانقلاب، إلى سورية التي اجتمع على شعبها بغاة الأرض كلهم، فتسللوا من شقوق الحلم كي يسدلوا ستاراً من الدم على بقايا مدنها المدمرة، وصولاً إلى ليبيا المجزرة المفتوحة، ويمن الكوليرا والحصارات والطاعون.
بلاد العرب كلها من الصحراء إلى الصحراء تلعق سراب المستبدين. كل استبداد أصولي وكل أصولية استبداد، والمستبد كالأصولي هو المبشر باللا أحد، أي بفراغ لا يملؤه سوى الخراب والدم. هذا ما أعلنه الطغاة العرب وهم يفاجأون بانتفاضات شعوبهم من أجل الحرية، وكان الرد الأصولي الذي تسلل من شقوق عجز الثورات عن إنتاج قيادات تاريخية جرّاء عقود من القمع والخيبة والشلل الفكري، هو التناوب مع الاستبداد على تحويل بلاد العرب إلى ولائم للقتل.
زمن الانقلابيين وقادة الميليشيات وروائح الثروة المستباحة، صنع الثورة المضادة، وقام بتهميش المكانَين الباقيين في ركام الأزمنة: هُمشت فلسطين، بل هناك مَن يبشّر بنهايتها في صفقة قرن لن تكون سوى قبلة الموت لمسار سلام لم يكن في الأساس سوى وهم، كما هُمشت بيروت التي صارت أسيرة نظام طائفي فتك بثقافتها وقام بتحويلها إلى ورقة ترتجف خوفاً من أشباح الحرب الأهلية.
منذ بداية الثورات المضادة التي قادها العسكر والمافيات والأصوليون وموّلتها الثروات العربية المهدورة، تحوّل الموت إلى احتفال. لم يسبق أن كانت المجزرة مدعاة لفخر مرتكبيها كما هي اليوم في بلاد العرب. ليس صحيحاً أن احتفالية الموت كانت حكراً على التيارات الأصولية العسكرية كما يدّعي مَن يسعى لتغطية الجريمة بذاكرة مفقودة، فالاحتفال بالموت العربي بدأ حين استُبيح الناس وهُدمت المدن، من مذبحة شاتيلا وصبرا إلى المذابح الكبيرة والصغيرة في المدن والسجون العربية، في تقاطع مريب بين القاتل الإسرائيلي والقاتل العربي. لكنها بلغت ذروة لا ذروة بعدها في الربيع العربي، كما صاغه مؤخراً المعلق الأمريكي توماس فريدمان في مقالة عجيبة نُشرت في جريدة «نيويورك تايمز» (23 نوفمبر/ تشرين الثاني 2017)، وفيها يتناسى دم العرب المراق كي يحجب الربيع العربي خلف عباءة النفط.
لا تستحق مقالة فريدمان سوى وضعها في سياق اللعبة الأمريكية التي لا ترى في أرض العرب سوى بئر لنفطها من جهة، وتهديد محتمل لإسرائيل من جهة ثانية.
الثورة المضادة التي اجتاحت بلاد العرب وفّرت على الولايات المتحدة تخوفها من أي تهديد عربي لإسرائيل، فقد حوّل المستبدون الحلم العربي إلى كابوس، ونجحوا في لعبتهم الوحشية والدموية في جعل المشرق العربي منطقة لجذب الخراب، فأتت الميليشيات المسلحة من جميع أصقاع الأرض: أصوليون يريدون بعث دولة الخلافة، وأصوليون آخرون يحمون أنظمة مافيوية تسترت بالعلمانية، وفي لقاء الأضداد المتشابهة صارت بلاد العرب ملعباً للقوى الأجنبية.
لم يعد هناك أي خطر عربي على إسرائيل في المدى المنظور، بل هناك لهاث يسعى للتحالف معها بأي ثمن في لعبة الصراع الطائفية المجنونة التي تمزق مجتمعاتنا بالقوة الغاشمة. لذا ليس مستغرباً أن يمتطي دونالد ترامب عُته العرب بعتهه، ويعلن اعترافه بالقدس المحتلة عاصمة لإسرائيل، ونقل السفارة الأمريكية إلى المدينة المنكوبة بالاحتلال الاستيطاني، فالسيد ترامب يتسلق على حبال الوهن العربي، كي يصل إلى ما سعت إسرائيل للوصول إليه منذ احتلالها القدس وبقية فلسطين في سنة 1967.
سيسجل التاريخ أن «الأمريكي البشع»، العنصري الأبيض، اللاسامي في أعماقه، هو شريك اليمين العنصري الإسرائيلي في تأسيس دولة تمييز عنصري كاملة الأوصاف. فاللاسامية في جوهرها لم تكن ضد اليهود إلاّ لأنها ضد المختلف. وكما جسّدت اللاسامية في القرنين التاسع عشر والعشرين المكبوت العنصري البربري في الثقافة الكولونيالية، فإن الإسلاموفوبيا وفوبيا العرب تفتتحان القرن الواحد والعشرين بهمجية تليق بهما، عبر تحويل أرض العرب إلى بحار من الدماء والدموع والألم.
إلى أين تمضي بنا الثورة المضادة؟
لا قعر للقعر، فالثورة المضادة جزء من مدّ يميني صاعد، وجد في رئيس أمريكي متهور ومرتكب وخائف من أن تصل إليه يد القضاء حليفاً لرئيس حكومة إسرائيلية غارق في الفساد ويسعى هو الآخر لتجنّب الإدانة؛ التقى الرجلان في حمى الفساد والفاشية ليجدا في القدس وفلسطين منفداً لحرف الرأي العام في بلديهما وفي العالم عن ملاحقة فسادهما. ولأن العرب في القعر فقد وجد الرجلان في عرب هذه الساعة المنقلبة حلفاء معلَنين أو مضمَرين من أجل شطب الشعب الفلسطيني، والتلاعب بمصير فلسطين والمنطقة، والتعبير عن أحقادهما الكولونيالية. المفاجأة لم تكن خطاب ترامب، ولا الصلف الإسرائيلي الذي صاحبه؛ المفاجأة هي ادعاء الحكام العرب والقادة الفلسطينيين بأنهم فوجئوا. مسألة القدس بالنسبة إلى الثنائي نتنياهو ـ ترامب انتهت من زمان، وجاء الإعلان الأمريكي من أجل إقفال الملف وليس فتحه كما يظن بعض السذّج. الأنظمة العربية تمثل وتكذب، وغداً سيكشف لنا التاريخ أن هذه الصفقة لم تكن ممكنة إلاّ بسبب هوان الأنظمة وتواطئها.
من جهة أُخرى، فإن بعض ردات الفعل اتسم بالسذاجة، ولعل الأكثر سذاجة بينها هو شعار أن القدس عاصمة أبدية لفلسطين. في هذا القول تقليد للمقولة الصهيونية بأن القدس هي العاصمة الأبدية لإسرائيل. في الصراع الفكري مع الصهيونية يجب عدم السقوط في فخ خطابها. مجرد استخدام كلمة الأبد هو سقوط في الفكر الغيبي الذي قد يصل بسهولة إلى الفاشية. تذكروا ماذا فعل بنا أبد المستبدين العرب، وإلى أي دمار أوصلنا. ليس هناك لا عواصم أبدية ولا دول أبدية: لا إسرائيل أبدية ولا فلسطين أبدية، فالأبد هو نقيض التاريخ وسقوط في الشعوذة. الصراع ليس على الأبد أو على الماضي، إنه صراع في الحاضر وعلى الحاضر من أجل الدفاع عن عروبة القدس بصفتها لم ولن تكون إلاّ مدينة عربية.
إلى أين نسأل؟
قبل محاولة الإجابة يجب أن نؤكد حقيقة أن القدس، فضلاً عن رمزيتها الثقافية والدينية، هي جزء من الضفة الغربية الفلسطينية التي احتُلت منذ سنة 1967. فصل القدس العربية عن محيطها بالجدار والمستعمرات كان محاولة لطمس هذه الحقيقة. وحين أعلن الرئيس الأمريكي اعترافه بالقدس عاصمة لإسرائيل، فإنه شرعن احتلال الضفة الغربية بأسرها.
فلسطين هي القدس والقدس هي كل فلسطين
هذه هي الحقيقة الفلسطينية اليوم، وهي حقيقة يجب أن تدفع الفلسطينيين إلى إعادة النظر في مجمل الاستراتيجية الفلسطينية منذ أوسلو وهزيمة الانتفاضة الفلسطينية وما استتبعتاهما من سياسات رضوخ ووهم. قال «الأمريكي البشع» بوضوح لمَن يدّعي أنه لم يفهم أن اللعبة القديمة انتهت، إن مَن يتوسل الحماية الأمريكية لنظامه الاستبدادي المتهاوي عليه أن يدفع الجزية أولاً، ثم يعلن جهاراً أنه جزء من صفقة القرن التي تريد إسدال ستار نهائي ليس على فلسطين وحدها، بل على العالم العربي أيضاً.
إلى أين نسأل؟
سؤال اليوم هو السؤال الذي لم يعد تأجيله ممكناً. منظمة التحرير اكتسبت شرعيتها الفلسطينية والعربية والدولية عندما كانت منظمة الفدائيين. حين كان النضال هو البوصلة كانت فلسطين، وحين يغيب النضال تندثر فلسطين.
أين المقاومون؟
في اللحظة التي سلّمت فيها القيادة الفلسطينية أوراقها لكذبة سلام الاستسلام، وخضعت لإملاءات الرباعية الدولية، وقامت بالتنسيق مع المحتل من أجل تغطية احتلاله، بدأت فلسطين تتشظى وتندثر، وصار وهم السلطة وهناً، وتحوّل الشكل السلطوي إلى صَدَفَة تحمل في داخلها جثة المحارة التي كانت. القدس اليوم هي العنوان، أمّا المتن فهو فلسطين. أهمية خطاب ترامب تكمن في أنه أعلن بشكل رسمي نهاية مرحلة انتهت منذ أعوام. المرحلة التي كانت حبلى بالسراب انتهت. وعلى فلسطين أن تعود إلى الأول كي تبدأ من جديد. والأول هو مشروع تحرر وحرّية، إنه المشروع الذي يحمل اسمين: الدولة الديمقراطية العلمانية و/ أو الدولة الثنائية القومية.
والاسمان هما عنوانان للنضال من أجل الحرية والمساواة: الحرية للفلسطينيين عبر ممارسة حقهم في تقرير المصير وحقهم في العودة إلى بلادهم التي طُردوا منها بالعنف والقتل والتطهير العرقي، والحرية لليهود أيضاً عبر تحريرهم من العنصرية الصهيونية ومن التعالي العنصري كي يعيشوا في وطن واحد مع ضحيتهم في ظل نظام من المساواة.
إنه نضال طويل ومؤلم.
لكن الحرية هي قدر الأحرار، فالشعب الفلسطيني في نكبته المستمرة يقدم احتمال خروج فلسطين ومعها المنطقة العربية من قاع التردي والانحطاط. وهذا يعني أن الشعب الفلسطيني سيكون، كما كان دائماً، وحده في المواجهة التي تحمل في داخلها احتمال تصويب البوصلة العربية، ومنع السفهاء والمنافقين من الاستمرار في لعبة المتاجرة بالأوطان، وفي لعق مبرد الثورة المضادة.
بوصلة العالم العربي لها وجهة واحدة اسمها فلسطين.
هنا، في الأرض المستباحة، يعرف الشعب الفلسطيني ألا خيار له سوى البقاء والصمود والمقاومة. وشوارع الحرية في انتظاره. وهي شوارع تبدأ في القدس وتمتد إلى كل فلسطين، ومنها إلى المشرق العربي.
○ افتتاحية العدد الجديد (113) شتاء 2018 من مجلة «الدراسات الفلسطينية» الذي يصدر أوائل الأسبوع المقبل.