عبد الباري عطوان
ما زالت تداعيات انتصار المقاومة الاسلامية في لبنان بزعامة حزب الله تتواصل بشكل مكثف، بسبب التغييرات الجذرية التي احدثتها في المعادلات السياسية والعسكرية في المنطقة، حيث تعكف معظم الجهات الاقليمية والدولية علي دراستها بشكل معمق، واستخلاص الدروس، ورسم استراتيجيات المستقبل علي اساس انعكاساتها، باستثناء الطرف الفلسطيني الرسمي، الذي ما زال يتصرف وكأن الحرب في لبنان لم تحدث، وكأن اسرائيل لم تهزم، وكأن عملية السلام تتقدم وفق المخطط المرسوم لها.
فمن المفارقة، انه في الوقت الذي يتحدث فيه الجميع عن رد الاعتبار لثقافة المقاومة، وانكسار ثقافة الحلول السلمية المفروضة وفق المعايير الاسرائيلية، يخرج علينا المسؤولون الفلسطينيون بانباء عن بدء مشاورات رسمية لتشكيل حكومة وحدة وطنية، بين رئيس السلطة محمود عباس ورئيس وزرائها اسماعيل هنية، علي اساس وثيقة الاسري .
كنا نعتقد ان المجازر التي ترتكبها القوات الاسرائيلية بشكل يومي في قطاع غزة، وعمليات القرصنة التي تمارسها وتتمثل في اختطاف رئيس المجلس التشريعي واكثر من ربع النواب وتسعة وزراء، قد طوت هذه الوثيقة، مثلما طوت كل ما قبلها من اشكال وهمية مثل رئاسة الوزراء، ورئاسة السلطة، ولكن يبدو ان اعتقادنا في غير محله تماماً، وان هناك من المسؤولين الفلسطينيين من لا يزال يتمسك باشكال ومناصب وهمية، ليس لها اي مكان الا في مخيلتهم هم ولا احد غيرهم.
فكيف يمكن الحديث عن حكومة وحدة وطنية علي اساس عملية سلمية ماتت وشبعت موتاً، واعلن وفاتها رسمياً وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الطاريء الذي انعقد في القاهرة في بداية ازمة العدوان الاسرائيلي علي لبنان.
من يتذكر وثيقة الأسري هذه التي كانت مشروع فتنة داخلية فلسطينية كادت ان تؤدي الي حرب اهلية، ولم ينقذ الفلسطينيين منها الا العملية الفدائية الجريئة التي اسفرت عن اسر جندي اسرائيلي قرب معبر كرم سالم علي الحدود مع مصر.
اننا لا نلوم السيد عباس اذا ما حاول احياء هذه الوثيقة الميتة التي تجاوزتها الاحداث، ولكننا نلوم السيد اسماعيل هنية رئيس الوزراء الذي انطلت عليه هذه الحيلة، من قبل جماعة اوسلو الذين يريدون العودة الي الاضواء باي طريقة، ومن البوابة الخطأ، وفي الزمن الخطأ.
فالسيد هنية طالب قبل بضعة ايام قليلة بحل السلطة الفلسطينية باعتبارها فقدت مصداقيتها واسباب وجودها، بعد اختطاف رئيس المجلس التشريعي الفلسطيني الدكتور عزيز الدويك، وها هو اليوم يتراجع عن هذا الموقف المشرف، بالسقوط في مصيدة من يريدون ان يتعلقوا بعربة تسوية ميتة حتي يظلوا تحت الاضواء، ويشككوا في انتصار المقاومة في لبنان، ويربطوا الشعب الفلسطيني وقضيته بالنظام العالمي القديم، نظام بوش ـ اولمرت ـ بلير الذي مني بهزيمة ساحقة ومذلة علي ايدي رجال المقاومة في لبنان.
نعم لحكومة وحدة وطنية، ولكن علي ارضية المقاومة، لا علي ارضية اشكال بالية من التسويات، تعكس الإذعان الكامل للشروط الاسرائيلية، وتحويل الشعب الفلسطيني الي شعب متسول للحلول وللمساعدات المالية.
ثم اين هي هذه الحكومة، وهي لا تستطيع فتح معبر، وحماية وزرائها من الخطف، وابناء الشعب الفلسطيني من القتل بالعشرات في قصف اسرائيلي مستكبر، وبمباركة امريكية وصمت عربي مريب؟
المشاورات الفلسطينية يجب ان تبدأ فعلاً، ليس من اجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، وانما من اجل اعلان حل السلطة الفلسطينية، كأول خطوة تضامنية مع المقاومة اللبنانية، واول استيعاب للمتغيرات الجديدة التي فرضتها بصمودها في معارك الشرف والكرامة في جنوب لبنان.
الحديث عن حكومة وحدة وطنية فلسطينية يشكل اهانة لانتصارات المقاومة اللبنانية، ورد اعتبار للعملية السياسية التي يريد الرئيس بوش الايحاء بانها ما زالت موجودة وقائمة وناجحة، وان المتطرفين من امثال حزب الله وقيادته، هم الذين يريدون تدميرها.
اننا نستغرب ان يتحدث البعض عن هذه الحكومة وتسعة وزراء خلف القضبان، ورئيس المجلس التشريعي الذي من المفترض ان يكون الرجل الثاني في سلّم السلطة، ويتولي رئاستها في حال وفاة رئيسها فجأة، يعالج في المستشفي من شدة التعذيب في سجون الاحتلال بعد خطفه بطريقة مهينة ومذلّة.
الشعب الفلسطيني يريد قيادات علي مستوي السيد حسن نصر الله، يقود حركة مقاومة بطريقة تنظيمية فاعلة ومؤثرة، لا يخاف من امريكا واسرائيل، ويملك ارادة حديدية لا تلين، لا يخشي الموت، بل يسعي اليه باعتباره ذروة التضحية، وقمة المني، واسرع طريق لدار البقاء.
السيد محمود عباس رئيس السلطة ما زال يعيش في زمن اهل الكهف، ويفكر بطريقة تعود الي الوراء ثلاثين عاماً، ويرفض ان يستوعب، او يصدق ان هناك في لبنان من الحقوا هزيمة تاريخية بالدولة العبرية وجيشها الذي كان حتي الأمس القريب لا يقهر. حيث باتت ايام صديقه ايهود اولمرت وحزبه كاديما معدودة للغاية، وتتصاعد المطالبات باطاحته وحكومته بتهمة التقصير.
القائد الناجح هو من يلتصق بشعبه، ويقرأ ابجديات تفاعلاته وحقيقة مشاعره. فالفلسطينيون مثلهم مثل الغالبية الساحقة من العرب والمسلمين، يعيشون هذه الايام اسعد لحظات حياتهم، وهم يشاهدون المقابر الجماعية لدبابات الميركافا فخر الصناعة العسكرية الاسرائيلية، وجنازات الجنود الاسرائيليين تتواصل بالعشرات، بينما تزداد طوابير من يريدون الهروب من السفينة الاسرائيلية الغارقة امام السفارات الاوروبية والامريكية طمعاً بالنجاة وتربية اطفالهم في مجتمعات آمنة مستقرة.
انتصار المقاومة الاسلامية في جنوب لبنان جبّ كل ما قبله، وخلق واقعاً جديداً، وأنهي مرحلة من العربدة الاسرائيلية الامريكية، واحدث حالة من الفرز، بين ما هو محمود، اي قيم المقاومة، وما هو خبيث، اي قيم الاستجداء للسلام الامريكي ـ الاسرائيلي المغشوش.
مرة اخري نطالب بحل هذه السلطة، واعادة القضية الفلسطينية الي بيتها الحقيقي، اي بيت المقاومة، فقد اتضح زيــف هذه الاكذوبة ومدي خطورتها في خدمة الاحتلال وتنصله من مسؤولياته، وأي محاولة لإعادة احيائها، وهي عظام رميم، هي اهانة للشعب الفلسطيني، واهانة لانتصار المقاومة في لبنان.
فالمقاومة اللبـــنانية هي التي فرضت تعـــديلات قرار مجـــلس الامن الدولي، واجبرت امريكا واسرائيل علي سحب مشروع قرارهما المخجل لاول مرة في تاريخ المنظـــمة الدولية، والمقـــاومة الفلسطينية هي التي تفرض مسيرة سلمية جديدة قائمة علي العدل والمساواة، واستعادة الحقوق المغتصبة.
No comments:
Post a Comment