"ما يبدو واضحاً هو أن الأمور تسير نحو ضعف السلطة وسقوطها، والمتابع لكل النشاط الدولي يتلمس خوفاً من نهاية السلطة، لهذا تصاعد دور المبادرات والحديث عن حلول، وحتى التخويف من أجل قبول حل "وسط".
ما يقوله الإبراهيمي، وتهدد به روسيا، وتلمح إليه طهران يصب في هذا المساق. لكن الأمر لا يتوقف عند هؤلاء، بل إن الدول الإمبريالية تتدخل لكي تشوّش على ما تعتقد أنه توافق روسي أميركي. من تركيا التي تريد أن تعيد مجد علاقتها ببشار الأسد بعد أن أصبح مهدداً بالضياع مع سقوط النظام، لهذا تحاول أن تجد "البديل" من بعض أطراف المعارضة، لكنها تحاول كذلك التشويش على كل حل ممكن يتجاوزها.
حاولت فرنسا التدخل وتشكيل "كادر" يخصها يمكن أن يصبح جزءا من السلطة الجديدة في سوريا، لكنها أحست بأن الأمور قد تجاوزتها فزحفت على مالي |
لكن ليس كل ذلك هو المهم، وربما كان هذا هو الهامش في الصراع الكبير الذي يجري. فما يبدو هو أن السلطة تتراجع، وهي في تراجعها تميل إلى ممارسة التدمير الشامل بالقوى التي ظلت بحوزتها، وخصوصاً الطيران والمدفعية والصواريخ.
ويظهر أنها لم تعد تستحوذ على قوى عسكرية كافية لفرض سلطتها على الأرض، حتى في دمشق العاصمة. بالتالي فهي تمارس الانتقام من شعب تمرّد عليها، ويريد رحيلها. وهو أمر لا يقوم به سوى الذي بات مقتنعاً بأنه انتهى.
لهذا يلجأ إلى النصف الآخر من المعادلة التي طرحها: "الأسد أو نحرق البلد" (أو بشكل آخر: "الأسد أو لا أحد"). الممارسة العسكرية على الأرض تقول بذلك، رغم أن كل المجهودات الإقليمية تنصبّ لخدمة استمراره عبر "تخريب" الثورة وتحويلها إلى صراع طائفي، وأصوليات حاكمة في مناطق تراجعت سلطة الدولة عنها بفعل قوة الشعب ذاته.
لكن السؤال الذي يطرح على ضوء كل ذلك هو: لماذا إذن تستمر السلطة، ولا يبدو أن الثورة قادرة على إسقاطها؟ ولماذا تظهر الثورة وكأنها في مأزق، وأن استعصاءً بات يحكم الوضع؟ هناك التدخلات "الخارجية"، ولا يتوقف الأمر عند روسيا وإيران اللتين تدعمان السلطة، حتى بما هو عملي، بل إن دولاً "إقليمية" باتت تتدخل لفرض تحويل في طبيعة الصراع، عبر فرض قوى أصولية تصبح هي الثورة.
لكن الخطر هنا يتمثل في "العقل الطائفي" الذي يمكن أن يتوافق مع منطق السلطة التي عملت منذ البدء على استثارة صراع طائفي لكي تضمن تماسك "الأقليات" خلفها، وهنا نشير بالتحديد إلى العلويين الذين لتمردهم قوة الحسم في هذا الصراع كما تعتقد السلطة. وبالتالي تتحول الثورة من ثورة شعب ضد سلطة مستبدة ونهابة إلى صراع بين طوائف تقف السلطة حكماً بينها، أو تستجير، وهي تسقط، بطوائف لكي تبقى.
وهناك الدول الإمبريالية القديمة التي تعمل على تغذية الصراع دون السماح بحسمه، وهي لا تريد التدخل ولا الدعم العسكري بالضبط، لأنها ترى أن السلطة تفعل ما فعلت أميركا في العراق، أي التدمير والقتل. وهي تريد استمرار هذا الصراع لكي تسمح للسلطة بأن تدمر أكثر، بغض النظر عن النتائج التالية. وكما أشرنا، بعضها يساوم في سوريا لكي يحصل في مكان آخر، والبعض يشوش لأنه يعتقد أنه بات خارج التقاسم، أو لكي يحصل على "شيء ما" في هذا التقاسم.
لهذا نجد أن الثورة تواجه ليس السلطة فقط، بل كل الوضع الدولي، كما تواجه دولا تريد فشل الثورة لأنها تتخوّف من انتقالها إليها. وأيضاً أطراف المعارضة، خصوصاً الأصوليين الذين يعملون من الآن على فرض "سلطتهم" ومنطقهم، وإصباغ الثورة بصبغتهم، التي هي معيق لتطور الثورة وانتصارها، نتيجة تنفير قوى الثورة، وتمكين السلطة.
يجب أن تقدم إستراتيجية جديدة، تنطلق من
حتمية انتصار الثورة، فالوضع بات يفرض بشكل حتمي ذلك، لكي لا يعم اليأس من جهة، أو
يستغل الوضع من أجل زيادة الصراعات من جهة أخرى |
وبدل أن يقيم الشعب سلطته تمارسها قوى تريد الهيمنة بدل استمرار الصراع مع
السلطة، تتسرع للسيطرة وفرض سلطة بدل تطوير صراعها ضد السلطة. ويتراجع وضع الحراك
الشعبي، كما يزداد النقد لما يجري، ويزيد خوف الشعب من فوضى يمكن أن تتوسع. ويغرق
في حالة من الحرب اليومية، ومن النقص في الغذاء والدواء، ومن التدمير
والتهجير.
ولا يبدو أن هناك إستراتيجية واضحة لكيفية إسقاط السلطة. لا في المستوى السياسي،
ولا في المستوى العسكري. وهو الوضع الذي بات يطرح السؤال عن سبب عدم انتصار الثورة
بعد ظهور الضعف الشديد للسلطة، وبالتالي الإحساس بالغرق في بحر من الفوضى في الأيام
المقبلة.لهذا يبدو أنه يجب أن تقدم إستراتيجية جديدة، تنطلق من حتمية انتصار الثورة، وتعتمد على الشعب، وتعزز العمل المسلح. فالوضع بات يفرض بشكل حتمي ذلك، لكي لا يعم اليأس من جهة، أو يستغل الوضع من أجل زيادة الصراعات في إطار الثورة لتفتيتها، وإنجاح سياسة تحويلها إلى صراع طائفي. ومن أجل أن يصبح أفق الانتصار واضحاً. لهذا يجب أن يترسخ ما يلي:
1- إن المناطق التي تلاشت سلطة الدولة عنها بقوة ونشاط الشعب، وبالكثير من الشهداء، يجب أن تدار من قبل لجان يختارها الشعب، وأن تصبح هذه اللجان هي المسؤولة عن كل الوضع بما في ذلك الأمن والإدارة وتنظيم الحياة.
2- أن يعود الحراك الشعبي كقوة فاعلة بعد أن تراخى، سواء نتيجة الميل المبالغ فيه نحو العمل المسلح أو نتيجة الضرورة التي فرضها التهجير الكبير لملايين السوريين، وانغماس كثير من الناشطين في مساعدة هؤلاء المهجرين.
3- أن الثورة التي انطلقت من خلال التظاهر، وهزت السلطة، ثم تحوّلت إلى العمل المسلح، يجب أن تعيد التوازن بين هذا وذاك، وأن تعود ثورة شعبية يدعمها السلاح. وأن يسقط مبدأ "التحرير" الذي هو جزء من إشكالية الاستعصاء القائم، على ضوء نقص السلاح والمال، وضعف الخبرة، وغياب الإستراتيجية العسكرية الواضحة. ولكي تنتصر الثورة لا بد من أن يظل الحراك الشعبي جوهرياً.
4- إن مبدأ "التحرير" الذي تطرحه بعض القوى المسلحة لا يفي بالغرض، على العكس يسهّل زيادة التدمير والقتل، إذ إن هذا الشكل من الصراع يفترض دعم الحراك الشعبي بالسلاح وليس التحول إلى عمل مسلح معزول، وينطلق من السيطرة على المدن والقرى في وضع تستطيع السلطة فيه التدمير الأقصى والأقسى. في وضع يتسم بتملك السلطة لقوة نيران هائلة قادرة على التدمير الشامل. هذا الشكل غير مناسب في إطار ميزان القوى القائم، حيث يجب أن تبقى قوة الشعب هي الأساس لكي يتحقق الانتصار.
5- كل ميل طائفي هو خطوة نحو تدمير الثورة، وكل سعي لفرض منطق أيديولوجي طائفي على الثورة وحصرها فيه هو تدمير لها. لهذا لا بد من عزل كل من يعمل على فرض هذا الميل.
6- يجب التركيز على كسب العسكريين، والعمل على أن يتحرك الجيش كجيش ضد السلطة التي تتحكم بالقرار الآن، خصوصاً بعد أن باتت معظم قطاعاته "محتجزة" في معسكرات بعد أن بات الجنود والضباط محتقنين وقابلين للانشقاق. لهذا لا بد من نشاط فاعل في هذا السياق. كما يجب كسب كل المترددين أو المتخوفين والخائفين، فهم من يمكن أن يساعد على كسر قوة السلطة، خصوصاً مناطق الساحل.
كل ميل طائفي هو خطوة نحو تدمير الثورة، وكل سعي لفرض منطق أيديولوجي طائفي على الثورة وحصرها فيه هو تدمير لها. لهذا لا بد من عزل كل من يعمل على فرض هذا الميل |
8- أخيراً يجب أن يكون واضحاً أن الهدف الأساسي هو بناء دولة علمانية ديمقراطية، وتحقيق مطالب المفقرين والمهمشين من خلال تغيير النمط الاقتصادي خدمة لمصالح هؤلاء. الثورة انطلقت من أجل ذلك ويجب أن تحقق ذلك، دون التفاف أو مناورة أو تهميش. وأن أي تغيير لا يمس هذه المسائل، التي هي الجوهرية، سوف يبقي الثورة مستمرة، لأنها في أساسها هي ثورة اجتماعية، وإنْ ظهرت بمظهر سياسي (بمعنى إسقاط النظام السياسي وتأسيس دولة ديمقراطية)، أو حاولت القوى الليبرالية حصرها في هذا المستوى السياسي، أو أيضاً حاولت القوى الأصولية إلباسها "جلباباً" وإطلاق لحيتها.
هذه خطوات باتت ضرورية من أجل انتصار قريب، ولتجاوز كل التدخلات الدولية واللعب الإمبريالي، ولفتح الطريق لامتداد الثورة إلى البلدان العربية الأخرى بعد أن كانت قد بدأت بتونس وامتدت إلى مصر والبحرين واليمن وليبيا. فلا شك في أن انتصار الثورة السورية سوف يفتح طريقاً واسعاً لثورات تغيّر الواقع الذي عملت الإمبريالية والنظم الاستبدادية على فرضه طيلة العقود الماضية
No comments:
Post a Comment