عبد الحليم قنديل
"لكاتب السطور علاقة طيبة مع قادة حماس في الخارج والداخل الفلسطيني، ويقدر لحركة حماس دورها التاريخي في حياة الشعب الفلسطيني، وعظمة تضحيات شهدائها ومؤسسيها الكبار، وصلابة وحيوية تنظيمها الداخلي.
وقد التقيت السيد خالد مشعل ـ زعيم حماس ـ مرات في القاهرة ودمشق، وفي زمن حكم مبارك، وحيث كان ذلك من المحرمات والمحظورات، وتلقيت من مشعل اتصالا هاتفيا كريما يهنئ بنجاح الثورة المصرية في خلع مبارك، وقبلها بسنوات، التقيت مشعل في دمشق، وكان الرجل غاية في المودة والحفاوة، وبادرني مبتسما مهللا بقوله 'نحن الحركة الاستشهادية وأنت الكاتب الاستشهادي '، وكان مشعل يشير بعبارة 'الكاتب الاستشهادي' إلى ما هو معروف من دوري في قيادة الحملة الصحفية والسياسية لخلع نظام مبارك، وهي الحملة التي بدأتها مبكرا، ومع منتصف العام الأول من القرن الجاري، ولاقيت بسببها ما لاقيت، ومما احتسبه لوجه الله والحق والوطن والشعب.
وقد لايكون لهذا الكلام من محل إلا فيما سأقوله توا، فأنا أريد أن أحذر حركة حماس مما أتصوره أخطاء وخطايا، وبالذات في علاقتها بالمخاض الجاري في مصر الآن، وتزايد وتيرة الرفض لحكم جماعة الإخوان، وتبين فشله الذريع بسرعة خارقة، وهو ما يؤثر بشدة على شعبية حركة حماس في مصر، ونزولها إلى أدنى درجاتها، واعتبارها مجرد فرع فلسطيني لجماعة الإخوان، يحق النفور منها كما النفور من حكم الإخوان، وينظر إليها كميليشيا قابلة للاستدعاء لنصرة الإخوان وقت الخطر، وكلها ـ للأسف ـ افتراضات تلقى قبولا واسعا من غالبية المصريين الآن، خاصة أن وسائل إعلام مصرية كثيرة تدأب على تغـــذية المخاوف، وباستخدام 'وثائق مضروبة' قد يكون مصدرها فلسطينيا في أغلب الأحوال.
أصل الخلل فيما نتصوره قد يمكن شرحه على النحو التالي، فحركة حماس ـ تاريخيا ـ تؤمن بفكر الإخوان المسلمين، وليس واضحا ـ بالضبط ـ طبائع علاقتها التنظيمية بمكتب إرشاد الإخوان في مصر، بعض قادة حماس قالوا أنه لا ارتباط تنظيمي بل فكرى مجرد، وحتى لو كان الارتباط تنظيميا، فليس من مصلحة لحركة حماس أن تبدو كفرع لجماعة الإخوان في مصر بالذات، فالوطنيون المصريون لم يتعاملوا مع حماس أبدا بهذه الصفة، وتعاملوا معها كحركة تحرير وطني فلسطيني، ولم يكن تأييدها محصورا في أوساط الإسلاميين المصريين، بل كان يبلغ الذروة في أوساط القوميين والناصريين المصريين، ولاعتبارات تعلقت بمجرى حوادث وتطورات القضية الفلسطينية ذاتها، فقد بدت حماس ـ لوقت طويل ـ كعنوان لمشروع المقاومة المسلحة، عارضت اتفاق أوسلو وتداعياته، وامتازت بعبقرية تكتيكاتها الاستشهادية، ولعبت دورا مرموقا في الانتفاضة الفلسطينية الثانية، والتي تفجرت في نهايات العام 2000، وعقب نجاح 'حزب الله' في إجلاء الاحتلال الإسرائيلي عن الجنوب اللبنانى، ودون قيد ولا شرط ولا سلام ولا كلام، وفي هذه الفترة، بلغ التأييد لحزب الله و الحماس لحركة حماس إلى ذروته، ولم يلتفت أحد وقتها إلى 'شيعية' حزب الله أو 'إخوانية' حركة حماس، بل بدا 'حزب الله' عنوانا عربيا جامعا بامتياز، وبدت حركة 'حماس' كأنها الحركة الوطنية الفلسطينية الأجدر بالتأييد والدعم، وبدا الشعور 'الحماسي' جارفا إلى أواسط العقد الأول من القرن الجارى، ثم جرى ما جرى، ودخلت حماس إلى الانتخابات الفلسطينية، وما أعقبها من تطورات الصدام فالاقتتال الدموي بين 'فتح' و'حماس'، لكن حركة 'حماس' ظلت تحظى بتفضيل ملموس في أوساط الوطنيين المصريين المناهضين لحكم مبارك، خصوصا بعد أن آلت إليها مقاليد الأمور في غزة اللصيقة بمصر.
وعانت من أهوال الحصار الذي شارك به النظام المصري وقتها، وتحولت قضية فتح معبر رفح وكسر الحصار إلى عنوان يومي في السياسة الداخلية المصرية، وشهد الشارع المصري مظاهرات ضخمة لدعم صمود حماس في حرب أواخر 2008 أوائل 2009، ولقينا ما لقينا من صنوف العنت والمصادرة والتجويع والترويع في مصر، ليس لأننا كنا ندعم حماس كتنظيم إخواني، بل لأن 'حماس' بدت وقتها كحركة مقاومة فلسطينية وعربية باسلة، تؤلف من حولها القلوب والضمائر.
كان هذا ما كان، وهو ما اختلف ـ بالطبع ـ بعد نجاح الموجة الأولى للثورة المصرية، فقد تم فتح معبر رفح بصورة شبه دائمة، وجرى اختراق حصار غزة، وصار الذهاب لدعم غزة من السياحات المفضلة لحركة الوطنية المصريةعلى تنوع تياراتها، لكن وصول الإخوان للحكم خلق مشكلة في الاتجاه المعاكس لما كان زمن المخلوع، فقد بدت دولة خليجية صغيرة وغنية، وكأنها الكفيل المالي المشترك لحكم الإخوان ولحركة حماس معا، وانتشرت في أوساط الرأي العام المصري دواعي الكراهية لهذه الدولة ومكفوليها، ثم بدت حماس كأنها وضعت بيضها كله في سلة 'رئيس' إخواني متعثر، أو كأنها تحارب إلى جانب الإخوان، وفي معركة لا يصح لها أن تشارك فيها، ودون أن تنتبه إلى الأثر الفادح لهذا السلوك في مصر بالذات، والتي تشهد الآن توزعا واستقطابا غير مسبوق، وتتعدد فيها مراكز التأثير داخل بنيان الدولة المصرية ذاته، لم تنتبه حماس لخطأ دخولها في تفاصيل لحظة مصرية مضطربة، ولم تخاطب الرأي العام المصرى بصورة تزيل المخاوف والهواجس، ولم تقدر أنها قد تخسر عطف غالبية المصريين من غير الإخوان، وأنها تضع نفسها ـ ربما دون قصد ـ في عداء ضمني وصريح مع جماعات الشارع الثوري، ومع أحزاب وتيارات وطنية وديمقراطية واجتماعية متزايدة التأثير، وربما مع الجيش المصري نفسه، والذي قدم مئة ألف شهيد وجريح ومعاق في الحروب مع إسرائيل، وهو ما أدى إلى تدافع أزمات مكتومة وظاهرة، فلم تتعاون حماس بما يكفي لإجلاء حقيقة اختطاف ضباط شرطة مصريين بالقرب من الحدود، ولا تعاونت بما يكفي لكشف حقيقة قتل سبعة عشر ضابطا وجنديا من الجيش في المنطقة ذاتها، وظلت تراوغ في قضية الأنفاق، وتصدر عبر ممثليها تصريحات عنترية ضد قيام الجيش بهدم الأنفاق، والتي لم تعد لها من ضرورة بعد فتح معبر رفح، والذي ينبغي له أن يفتح على مدار اليوم لعبور الأفراد والبضائع، بينما 'الأنفاق' خطر أمني داهم، وعدوان ظاهر على السيادة المصرية، وقد يقبل به 'الإخوان' تقديما لمصالح الأهل والعشيرة، لكن الجيش المصري لايقبل، وأغلبية الشعب المصري الساحقة كذلك، وهو ما يفسر مشاعر كراهية خطرة لحركة حماس تنمو في نفوس المصريين، وإلى حد 'شيطنة' حماس بالكامل، وربما شيطنة الفلسطينيين أيضا.
وربما تكون 'حماس' اليوم في حاجة إلى اختبار وقرار بخصوص الوضع في مصر، وفي احتياج إلى أن توازن بين الدخول إلى مصر من الباب الواسع، أو أن تظل في حالة تسلل من شباك الإخوان الضيق، ففلسطين قضية وطنية مصرية بامتياز، وحركة حماس في حاجة إلى إثبات 'فلسطينيتها' بصورة تعلو على 'إخوانيتها'، فالإخوان جاءوا إلى الحكم وسيذهبون، ولا نريد لعلاقة حماس مع مصر أن تذهب بذهاب الإخوان، وإن حدث فستكون الكارثة لحماس أولا، وهذا ما يدفعنا إلى التحذير قبل فوات الأوان.
"
No comments:
Post a Comment