تاريخ النشر: 04/10/2013 - آخر تحديث: 18:14
* أنا أتابع ما يجري عندكم، ولكن من دون
الدخول في التفاصيل، فهذا غير ممكن، ولا ضروري.
* خلال الأعوام الثّلاثة الماضية انشغلت في تأسيس مركز أبحاث، أصبح رائدًا في مجاله في الوطن العربي.
* إذا لم يتصرف العرب كأمّة، فإن قضيّة فلسطين ستكون قضيةً مركزيةً في الأمنيات فقط.
* خيار المقاومة صحيح ولا يجوز الاستغناء عنه، ولكن عمليًّا هو غير قائم حاليًّا ككفاح مسلح.
* لا مستقبل لنظام الفصل العنصري في عالمنا.
"تقع على عاتق الشباب العربي في الداخل مسؤوليّة كبرى، هو الجيل الذي سيقود المرحلة القادمة، والذي نبني آمالنا عليه" يقول المفكر العربي د. عزمي بشارة في اللقاء الذي أجريناه معه في صحيفة فصل المقال الذي تناولنا فيه عددًا من القضايا السياسية خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حديث خص به "فصل المقال" بعد غياب عدد من السنوات عن الكتابة في الصحيفة التي أسسها بسبب انشغالاته الكثيرة كما يقول لنا، خصوصا في إدارة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي أسسه منذ ثلاث سنوات ومشاريع أخرى على مستوى الوطن العربي، إضافة لإنتاجه البحثي المتواصل في قضايا الثورات العربية والتحول الديمقراطي، إلا أن بشارة يؤكد أن خروجه القسري من فلسطين لم يجعله منقطعا عنّا، فهو متابع لما يجري ويؤمن بالحركة الوطنية في الداخل التي أصبحت ممأسسة تضم جيلا جديدا من الشباب يواصل الطريق.
أجرى اللقاء: ربيع عيد
فصل المقال: في البداية طَمئِنّا عن أحوالك.. خصوصًا أن هذه المقابلة الأولى منذ سنوات لوسيلة إعلام من الداخل الفلسطيني منذ خروجك من فلسطين، ما سبب هذا الانقطاع؟
أحوالي بخير والحمد لله. وبالطبع عندما ينظر المرء إلى ما حوله من قضايا معقدة وكوارث إنسانيّة تصبح الأمور نسبيّة. في الحقيقة لم يحصل انقطاع، فأنا أتابع ما يجري عندكم، ولكن من دون الدخول في التفاصيل، فهذا غير ممكن، ولا ضروري. ثمة حركة وطنية ممأسسة قائمة، ولا تنقطع جيليا، أوساط واسعة وواعدة من جيل الشباب تواصل الطريق، وهذا ما يهمني، وأنا سعيد بذلك. منذ أن كنت في الداخل عملت على تأسيس مؤسساتٍ قادرةٍ على العمل في غياب من أسسها. وتتعدد اسباب الغياب كما تعلم. فقد تكون بيولوجية وقد تكون سياسية مثل حالة المنفى وغيرها. هكذا هي الحياة.
فصل المقال: المتابع لأخبارك ونشاطك يتساءل كيف يجد عزمي بشارة الوقت لكل هذا النشاط والإنتاج؟ وهل كان الخروج القسري من الوطن فرصة جيدة لك للعمل على مشاريع طمحت لها مثل مركز أبحاث ودراسات؟ وهل يملك عزمي بشارة كامل الحريّة في العمل والنشاط في المكان الذي اختار الإقامة فيه؟
الحقيقة أنني مشغولٌ جدًا، ولا أجدُ الوقت لأيِّ حياةٍ اجتماعيّة أو أي نوع من النشاط الذي يقوم به الناس عامة في أوقات الفراغ، إذ ليس لدي وقت فراغ. انشغلت خلال الأعوام الثّلاثة الماضية في تأسيس مركز أبحاث، أعتقد بتواضع أنّه أصبح رائدًا في مجاله في الوطن العربي. ولكنّ طموحنا الأكاديمي يتجاوز ذلك إلى المقارنة مع المقاييس العالميّة، وهذا ما يتطلبه البحث الأكاديمي في العالم العربي. احتاج التأسيس إلى جهد كبير، لأننا بنيناه من لا شيء. فهذه إحدى اللعنات التي تلاحقني كما يبدو، فأنا أكاد لا أعمل في مكان جاهز، عليَّ دائمًا أن أقوم بتأسيسه من البداية. كما داهمتنا الأوضاع العربيّة التي تعرفها منذ بداية الثّورة في تونس، وأنت تعلم أنني انشغلت في ذلك مع الكثير من الشباب العربي في العديد من البلدان العربيّة، والذي يؤمن بفكرة التوافق بين الهويّة العربيّة والديمقراطيّة والمواطنّة من دون عداءٍ للحضارة العربيّة الإسلاميّة.
لدينا الحريّة الكاملة في العمل البحثي والأكاديمي، أنا لا أعرف مكانًا آخر في الوطن العربي يتوفر فيه هذا القدر من الحريّة والنشاط العلمي والبحثي. إذ حتى الآن لا يوجد أي تدخل لا في أجنداتنا البحثيّة ولا في مضامين الأبحاث الصادرة عن المركز. وهذا امتياز يشعر به الباحثون في المركز كافّة، وهم يأتون من جميع الأقطار العربيّة، وجميعهم متفقون على أنّ المكان متميّز لناحية الحريّة الأكاديميّة من جهة، والمستوى والرصانة وعدم وجود حلول وسط بشأنهما من ناحية أخرى. وهذا الحقيقة امتياز، فالدول عادةً (ولا حتى الدّول الأوروبية) لا تسمح لمن يطلب لجوءا سياسيًّا أن يقوم بأي نشاطٍ سياسيٍّ أو حتى أكاديمي، إذ يطلب عادة لمن يلجأ سياسيًّا لدولة ما أن لا يواصل أيا من النشاط الذي كان يقوم به، وبالتأكيد عدم التدخل في قضايا تلك البلد الداخليّة سواء كانت دولة ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة. المجال الذي فُتِح لنا هنا من ناحية دعم البحث العلمي والاستغناء عن الدعم الغربي بموجب أجندات غربيّة من جهة، والحريّة من جهة أخرى، هي أمورٌ تتمناها عادةً مراكز الأبحاث في العالم الثالث.
وباختصار الشعور العام أننا نقوم بعمل مهم بخصوص البحث العلمي في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في المنطقة العربيّة، ونحن مقبلون على مشروعٍ أكبر هو تأسيس جامعة للدراسات العليا.
بدأنا العمل على مناهجها منذ سنتين، وستفتتح إن شاء الله في سبتمبر 2015، وتقتصر على الدراسات العليا في مساري الماجستير والدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والإدارة العامّة.
أمّا بالنّسبة لكيف أجد الوقت للنشاط والإنتاج، فلا أدري، ولكنني أعمل في ساعات الليل المتأخرة والصباح الباكر في القراءة والكتابة، وهذا أمرٌ مقدس لا أتنازل عنه حتى في قمة الانشغال. لدينا في المركز الآن مكتبة متميّزة تضم عشرات آلاف الكتب في مواضيع الاختصاص التي تهمنا، وهي مكان المكوث المفضّل بالنّسبة لي في العامين الأخيرين. ثمة مشاريع فكرية بدأت العمل عليها في الداخل ولم يتح لي النشاط السياسي استكمالها. وهذه فرصة أن نستكملها في ما تبقى من العمر.
فصل المقال: خلال السنوات الأخيرة أصدرت عدة دراسات مختلفة حول "المسألة القبطيّة في مصر"، "الثّورة التونسيّة"، "في الثورة والقابلية للثورة"، "الدين والعلمانية" وكان آخرها كتابا عن الثورة السورية حمل عنوان "سورية ودرب الآلام نحو الحرية". حدثنا عن أعمالك الأخيرة..
بعد أن خرجت من البلاد أصدرت في نفس العام كتاب المسألة العربية، وكنت قد بدأت بإعداده في البلاد وأنهيته في صيف ذلك العام في عمّان، وبعده بعام أصدرت كتاب أن "تكون عربيًّا في أيامنا". وكنت في حينها أتنقل بين عمان بيروت. والمشروع الرئيسي الذي أعمل عليه حاليًّا هو كتاب يجمع بين التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وهو الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي، وقد صدر منه الجزء الأول كما تعلم وكان علي أن أصدر الجزء الثاني، إلا أنّ انشغالي بكتاب سورية: درب الآلام نحو الحرية أعاق العمل زمنيًّا، كما أن الجزء الثاني من الكتاب توسّع كثيرًا ليشمل تاريخ الفكرة العلمانيّة في الغرب، وآمل أن يصدر في بداية العام المقبل. أما الكتب عن الثّورة التونسيّة والثّورة السوريّة، وهنالك كتاب قريب عن الثّورة المصريّة، فهي دراسات مهمّة نظريا وسياسيا، فهي تساهم في تطوير نظريات العلوم الاجتماعية حول التغيير الاجتماعي في منطقتنا، وتعالج قضايا راهنة وتفسح المجال للتفكير العقلاني بشأنها، وهي تشكل في الوقت ذاته مصدرًا أكاديميًّا توثيقيًّا قريبًا من الأحداث. وما كان بالإمكان إصدارها خارج مركز أبحاث لأنها تتطلب عملًا توثيقيًّا طوال العام. من هنا فهي تجمع النظريّة والمنهج العلمي بتوثيق كم هائل من الأحداث والمواقف والبيانات يعملُ فيها باحثون في المركز، وسوف تتحول إلى أرشيف يتاح مستقبلًا للباحثين في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا. وبموازاة العمل على الجزء الثّاني والثّالث من كتاب الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي أعمل حاليًّا على إعداد مصدرٍ أكاديميٍّ حول الثّورة المصريّة. وهنالك أمور أخرى نعمل عليها من المبكر الحديث عنها الآن. أما ما ذكرته من "الثورة والقابلية للثورة" و"هل من مسألة قبطية في مصر؟" فهي دراسات مطولة صدرت ككتيبات في هذه الفترة أيضا.
- بشارة خلال توقيع كتابه الأخير "سورية: درب الآلام والحرية"
فصل المقال: يلاحظ العديد من الناس أنه
وبعد اندلاع الثورات العربية عام 2011، لم تعد القضية الفلسطينية القضية الأولى على
أكثر من صعيد كما السابق. هل همّشت الثورات العربية قضية فلسطين؟ أم أننا سنرى عودة
لقضية فلسطين كقضية مركزية بعد أن هُمشت من قبل الأنظمة
العربية؟
وهل كانت القضيّة الفلسطينيّة القضيّة الأولى بالنّسبة للأنظمة العربيّة في السابق؟ هذا وهم. القضيّة الفلسطينيّة هي القضيّة المركزيّة للأمّة موضوعيًّا، وإذا تصرفت كأمة. وهذا ما يجب أن يكون. ولكن بالنّسبة لغالبيّة الأنظمة العربيّة، كانت القضيّة الفلسطينيّة أداة في تبرير الوضع الراهن من دون أن تبذل جهدًا حقيقيًّا لمحاربة إسرائيل منذ عام 1973، ومن دون أن تبذل جهدًا حقيقيًّا حتى في إيجاد حلٍّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة. والقضيّة الفلسطينيّة من ناحية أخرى كانت مركزيّة في ضمائر الشعوب العربيّة وما زالت كذلك، ولا أعتقد أنّ هذا سيتغير مستقبلًا.
لا شكَّ أنّه ستطرأ تغيرات كبرى على القضيّة الفلسطينيّة لناحية ضرورة تحديد المشروع الوطني الفلسطيني وأدواته. وبرأيي سيكون علينا أن نخاطب الشعوب العربيّة بعمق وكثافة أكثر وباحترام أكبر، فهي لم تعد خارج السياسة كما أنها منشغلة بقضايا ظلم وغبن لاحق بها تتوقع منّا أن نتفهمها كما تتفهم هي قضيتنا. ولا يجوز أن نأخذ الشعوب العربيّة رهائن لقضيتنا فحسب، بحيث نطالبها أن تسكت على الظلم بثمن تحويل قضية فلسطين إلى شعارات. ما يسيء لقضية فلسطين وللشعوب العربية في الوقت ذاته.
لقد حصل سابقًا تغيّر بنيوي في قضيّة فلسطين قبل الثّورات بكثير وقبل هذه الشروخ والانقسامات التي نشهدها الآن في المجتمعات العربيّة، وذلك عندما قرّرت القيادة الفلسطينيّة نفسها الدخول في عمليّة تفاوض مع إسرائيل كاستراتيجيّة وحيدة للوصول إلى حل. هذا هو تحديدًا ما أخرج قضيّة فلسطين من قضيّة العرب الأولى كما يجب أن تكون، إلى قضيّة الفلسطينيين بل إلى قضيّة جزء من الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة مع تهميش الآخرين. الآن أصبحت لدينا قضيّة غزّة وقضيّة القدس وقضيّة الضفّة وقضيّة عرب 48 واللاجئين وغيره. هذه العمليّة بدأت في أوسلو وليس في الثّورات العربيّة، ولديك في بعض الحالات قيادات فلسطينية بنت استراتيجيتها على إخراج العرب من القضيّة الفلسطينيّة طيلة الفترة السّابقة. والمسألة ليست مسألة المكانة التي يحتلها الخبر الفلسطيني في النشرات: كخبر أول أو ثاني. وهذه ليست الحالة الأولى التي يتحوّل فيها الموضوع الفلسطيني إلى خبر ثاني أو ثالث أو رابع في نشرات الأخبار، اذكر معي حرب العراق وإيران والكويت والحرب الأهليّة في لبنان، ومع ذلك تمسكنا بمركزيّة قضيّة فلسطين لأننا نرى أن مركزيتها مرتبطة بوجود العرب كأمّة. أمّا إذا لم يتصرف العرب كأمّة سواء في دولهم القطريّة السابقة أو في الشروخ الطائفيّة، فإن قضيّة فلسطين ستكون قضيةً مركزيةً في الأمنيات فقط.
فصل المقال: بعد عشرين عامًا على مسار أوسلو والمفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة وعلى ضوء استئناف المفاوضات مؤخرًا، ما هو أُفق هذا المسار؟ وهل خيار المقاومة المطروح اليوم هو البديل؟ وما هو مستقبل الانقسام الفلسطيني الحاصل في اعتقادك؟
لا يوجد أفق لمسار أوسلو، ويا حبذا لو تراجع دراساتي ومقالاتي الرئيسية بهذا الشّأن منذ أوسلو. فلا يوجد موقف تفصيلي واحد كتبت عنه هناك إلا واتضحت صحته، وذلك ليس نتيجةً لامتيازٍ خاص بل لأنّ منهج التحليل الموضوعي والإخلاص لقضيّة فلسطين يقودك إلى هذه الاستنتاجات. فلم يختصر مسار أوسلو قضيّة فلسطين على الدّولة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة (دون قضيّة اللاجئين، إلا لفظًا)، بل تبيّن أنه لا يقود حتى إلى تحقيق مشروعه المختزل في الضفّة والقطاع بأنه جعل نفسه رهينة توازن القوى بين المحتل والواقع تحت الاحتلال مع التخلي عن فكرة تغييره، وجعل نفسه أسيرًا للعلاقة الأميركيّة-الإسرائيليّة والرهان على التأثير الأميركي على إسرائيل. ولا حاجة لأفصّل عدد الأخطاء في أي عملٍ يقوم على فرضيّة توقّع أن تقوم الولايات المتحدة بفرض حلٍّ عادل على إسرائيل. فمنذ أوسلو حتى اليوم اتجهت غالبيّة الضغط الأميركي إلى الفلسطينيين، ولست بحاجة إلى أن أعدد لك عدد التنازلات العربية والفلسطينية التي أضيفت إلى إعلان المبادئ ذاك حتى اليوم. المسار التفاوضي في مأزق أكيد، وكذلك مسار المقاومة في أشكالها السابقة على طول الحدود التي حولتها إسرائيل إلى حالة حرب حقيقيّة وليست فقط افتراضيّة، إذ أنها تجيب على المقاومة بالحرب الشاملة على السكان، سواء أكان ذلك في لبنان أو غزة. أمّا في الضفّة الغربيّة، فهنالك بنية أمنيّة معقدة تشمل السلطة الفلسطينيّة، وهي مقتنعة علنًا وبموجب استراتيجيّة واضحة أنّ خيار المقاومة هو خصمٌ لها وليس فقط لإسرائيل، وهذا ليس تجنيًا بل هذا هو الموقف العلني والمنشور، والذي يجري التنظير له. وهي تتهم السلطة في غزة أنها في الواقع تتصرف بنفس الطريقة تجاه أعمال المقاومة ضد إسرائيل حين تريد الحفاظ على نفسها.
على كل حال هذا موضوع شائك، فلم يعد بالإمكان قول شيء موضوعي حول العلاقات الفلسطينيّة-الفلسطينيّة في هذه المرحلة. نظريًّا خيار المقاومة صحيح ولا يجوز الاستغناء عنه، ولكن عمليًّا هو غير قائم حاليًّا ككفاح مسلح، إلا كحالة دفاع عن النفس، أي أقل من مقاومة الاحتلال للتخلص منه. ولكنه منتشر بأشكال أخرى مبعثرًا في كل مكان بشكل جهود نضالية للحفاظ على الأرض وعلى الهويّة وضد شق هذا الشارع وبناء تلك المستوطنة. لم يمر يوم لم يقاوم فيه الشعب الفلسطيني الصهيونيّة والاحتلال بشكل من الأشكال، ولكن من يقول أن هنالك استراتيجيّة مقاومة واضحة وموحدة في الشتات وفي المناطق المحتلة يخدع نفسه برأيي. الحقيقة أنّ أشكال مقاومة الظلم يجب أن ترتبط بأمرين: الأمر الأوّل هو الظرف الموضوعي للشعب وحتى الجماعات السكانيّة المختلفة؛ وثانيًا المشروع الوطني، وهنالك علاقة عضويّة بين الوسيلة والهدف. ما هو المشروع الوطني الفلسطيني؟ وما هي الوسائل لتحقيقه بموجب الظروف الموضوعيّة للشعب الفلسطيني ولتجمعاته الفلسطينيّة المختلفة؟ هكذا يسأل السؤال، ولا بدَّ أن نعالجه ولا متسع لذلك في هذه المقابلة.
فصل المقال: كيف تصمد اسرائيل كدولة أبرتهايد في القرن الواحد والعشرين؟ إلى أين تتجه الدولة اليهودية في ظل رفض الدولة الفلسطينية وتفاقم ما يسمى "القضية الديمغرافية"؟
لا شكَّ أن تقويض أسس قيام دولة فلسطينيّة الجاري والمستمر بواسطة الاستيطان لن يجعل الشعب الفلسطيني يقبل بالأمر الواقع، وسوف يقود إلى تحديدات أخرى للمشروع الوطني الفلسطيني تتجاوز مشروع الدّولة. وأنا أتحدث هنا عن مجمل الحركة الوطنيّة وعن الشعب كشعب، وليس عن طروحاتٍ أكاديميّة. سبق أن حدّدنا طابع الفصل العنصري القائم في فلسطين سواء بالتشريد أو بالاحتلال كحالة فرض للوجود الاستعماري، وكتبت ذلك منذ عقود، ومؤخرا خصصت جزءا رئيسيا من كتابي "أن تكون عربيًّا في أيامنا" لهذا الموضوع. وفي السطر الأخير لا أعتقد أنه يمكن أن يكون هنالك مستقبل لنظام الفصل العنصري في عالمنا، وشرط ذلك أن نعي هذا الواقع وأن نبلور خطابًا سياسيًا ومشروعًا وطنيًا ضده، وكذلك التحالفات الدوليّة اللازمة.
فصل المقال: قلت مؤخرًا خلال لقاء في عمان أنه وفي السنوات القادمة، سيكون لعرب الداخل الدور المركزي والأهم على صعيد القضية الفلسطينية، ما هو هذا الدور تحديدًا ولماذا عرب الداخل؟
في حالة تبلور مشروع وطني مناهض لنظام الفصل العنصري في فلسطين فإن العرب في الداخل يشكلون حالة متقدمة في هذا المشروع إذ حافظوا على هويتهم الوطنيّة الفلسطينيّة والعربيّة. ونحن نعتقد أنّ بلورة مشروع دولة المواطنين مع الحفاظ على الهويّة العربيّة الفلسطينيّة للسكان الأصليين والحقوق الجماعيّة المرتبطة بها كان طبيعيًّا من هذه الناحية، وقد حدّد مسار نضال العرب في الداخل جميعًا، سواء من ناهضوا هذا الخطاب أو من أيدوه. فمنذ أن طُرح هذا الخطاب لم يعد نضال العرب في الداخل كما كان عليه، ولا عادت نظرة إسرائيل إليه كما كانت في السابق. وطابع النضال الذي نشأ على هذا الأساس، وهو طابع سياسي سلمي مناهض للفصل العنصري، ومتناقض مع الممارسة الاستعماريّة، ومتصادم مع الاستعلاء العنصري، ومتمسك بالمساواة الكاملة دون التنازل عما أسميته، إذ كنتم تذكرون، كبرياء السكان الأصليين. وهذه مسؤوليّة كبرى تقع على عاتق الشباب العربي في الداخل، وهو الجيل الذي سيقود المرحلة القادمة، والذي نبني آمالنا عليه.
* خلال الأعوام الثّلاثة الماضية انشغلت في تأسيس مركز أبحاث، أصبح رائدًا في مجاله في الوطن العربي.
* إذا لم يتصرف العرب كأمّة، فإن قضيّة فلسطين ستكون قضيةً مركزيةً في الأمنيات فقط.
* خيار المقاومة صحيح ولا يجوز الاستغناء عنه، ولكن عمليًّا هو غير قائم حاليًّا ككفاح مسلح.
* لا مستقبل لنظام الفصل العنصري في عالمنا.
"تقع على عاتق الشباب العربي في الداخل مسؤوليّة كبرى، هو الجيل الذي سيقود المرحلة القادمة، والذي نبني آمالنا عليه" يقول المفكر العربي د. عزمي بشارة في اللقاء الذي أجريناه معه في صحيفة فصل المقال الذي تناولنا فيه عددًا من القضايا السياسية خصوصًا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية.
حديث خص به "فصل المقال" بعد غياب عدد من السنوات عن الكتابة في الصحيفة التي أسسها بسبب انشغالاته الكثيرة كما يقول لنا، خصوصا في إدارة المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات الذي أسسه منذ ثلاث سنوات ومشاريع أخرى على مستوى الوطن العربي، إضافة لإنتاجه البحثي المتواصل في قضايا الثورات العربية والتحول الديمقراطي، إلا أن بشارة يؤكد أن خروجه القسري من فلسطين لم يجعله منقطعا عنّا، فهو متابع لما يجري ويؤمن بالحركة الوطنية في الداخل التي أصبحت ممأسسة تضم جيلا جديدا من الشباب يواصل الطريق.
أجرى اللقاء: ربيع عيد
فصل المقال: في البداية طَمئِنّا عن أحوالك.. خصوصًا أن هذه المقابلة الأولى منذ سنوات لوسيلة إعلام من الداخل الفلسطيني منذ خروجك من فلسطين، ما سبب هذا الانقطاع؟
أحوالي بخير والحمد لله. وبالطبع عندما ينظر المرء إلى ما حوله من قضايا معقدة وكوارث إنسانيّة تصبح الأمور نسبيّة. في الحقيقة لم يحصل انقطاع، فأنا أتابع ما يجري عندكم، ولكن من دون الدخول في التفاصيل، فهذا غير ممكن، ولا ضروري. ثمة حركة وطنية ممأسسة قائمة، ولا تنقطع جيليا، أوساط واسعة وواعدة من جيل الشباب تواصل الطريق، وهذا ما يهمني، وأنا سعيد بذلك. منذ أن كنت في الداخل عملت على تأسيس مؤسساتٍ قادرةٍ على العمل في غياب من أسسها. وتتعدد اسباب الغياب كما تعلم. فقد تكون بيولوجية وقد تكون سياسية مثل حالة المنفى وغيرها. هكذا هي الحياة.
فصل المقال: المتابع لأخبارك ونشاطك يتساءل كيف يجد عزمي بشارة الوقت لكل هذا النشاط والإنتاج؟ وهل كان الخروج القسري من الوطن فرصة جيدة لك للعمل على مشاريع طمحت لها مثل مركز أبحاث ودراسات؟ وهل يملك عزمي بشارة كامل الحريّة في العمل والنشاط في المكان الذي اختار الإقامة فيه؟
الحقيقة أنني مشغولٌ جدًا، ولا أجدُ الوقت لأيِّ حياةٍ اجتماعيّة أو أي نوع من النشاط الذي يقوم به الناس عامة في أوقات الفراغ، إذ ليس لدي وقت فراغ. انشغلت خلال الأعوام الثّلاثة الماضية في تأسيس مركز أبحاث، أعتقد بتواضع أنّه أصبح رائدًا في مجاله في الوطن العربي. ولكنّ طموحنا الأكاديمي يتجاوز ذلك إلى المقارنة مع المقاييس العالميّة، وهذا ما يتطلبه البحث الأكاديمي في العالم العربي. احتاج التأسيس إلى جهد كبير، لأننا بنيناه من لا شيء. فهذه إحدى اللعنات التي تلاحقني كما يبدو، فأنا أكاد لا أعمل في مكان جاهز، عليَّ دائمًا أن أقوم بتأسيسه من البداية. كما داهمتنا الأوضاع العربيّة التي تعرفها منذ بداية الثّورة في تونس، وأنت تعلم أنني انشغلت في ذلك مع الكثير من الشباب العربي في العديد من البلدان العربيّة، والذي يؤمن بفكرة التوافق بين الهويّة العربيّة والديمقراطيّة والمواطنّة من دون عداءٍ للحضارة العربيّة الإسلاميّة.
لدينا الحريّة الكاملة في العمل البحثي والأكاديمي، أنا لا أعرف مكانًا آخر في الوطن العربي يتوفر فيه هذا القدر من الحريّة والنشاط العلمي والبحثي. إذ حتى الآن لا يوجد أي تدخل لا في أجنداتنا البحثيّة ولا في مضامين الأبحاث الصادرة عن المركز. وهذا امتياز يشعر به الباحثون في المركز كافّة، وهم يأتون من جميع الأقطار العربيّة، وجميعهم متفقون على أنّ المكان متميّز لناحية الحريّة الأكاديميّة من جهة، والمستوى والرصانة وعدم وجود حلول وسط بشأنهما من ناحية أخرى. وهذا الحقيقة امتياز، فالدول عادةً (ولا حتى الدّول الأوروبية) لا تسمح لمن يطلب لجوءا سياسيًّا أن يقوم بأي نشاطٍ سياسيٍّ أو حتى أكاديمي، إذ يطلب عادة لمن يلجأ سياسيًّا لدولة ما أن لا يواصل أيا من النشاط الذي كان يقوم به، وبالتأكيد عدم التدخل في قضايا تلك البلد الداخليّة سواء كانت دولة ديمقراطيّة أو غير ديمقراطيّة. المجال الذي فُتِح لنا هنا من ناحية دعم البحث العلمي والاستغناء عن الدعم الغربي بموجب أجندات غربيّة من جهة، والحريّة من جهة أخرى، هي أمورٌ تتمناها عادةً مراكز الأبحاث في العالم الثالث.
وباختصار الشعور العام أننا نقوم بعمل مهم بخصوص البحث العلمي في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة في المنطقة العربيّة، ونحن مقبلون على مشروعٍ أكبر هو تأسيس جامعة للدراسات العليا.
بدأنا العمل على مناهجها منذ سنتين، وستفتتح إن شاء الله في سبتمبر 2015، وتقتصر على الدراسات العليا في مساري الماجستير والدكتوراه في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّة والإدارة العامّة.
أمّا بالنّسبة لكيف أجد الوقت للنشاط والإنتاج، فلا أدري، ولكنني أعمل في ساعات الليل المتأخرة والصباح الباكر في القراءة والكتابة، وهذا أمرٌ مقدس لا أتنازل عنه حتى في قمة الانشغال. لدينا في المركز الآن مكتبة متميّزة تضم عشرات آلاف الكتب في مواضيع الاختصاص التي تهمنا، وهي مكان المكوث المفضّل بالنّسبة لي في العامين الأخيرين. ثمة مشاريع فكرية بدأت العمل عليها في الداخل ولم يتح لي النشاط السياسي استكمالها. وهذه فرصة أن نستكملها في ما تبقى من العمر.
فصل المقال: خلال السنوات الأخيرة أصدرت عدة دراسات مختلفة حول "المسألة القبطيّة في مصر"، "الثّورة التونسيّة"، "في الثورة والقابلية للثورة"، "الدين والعلمانية" وكان آخرها كتابا عن الثورة السورية حمل عنوان "سورية ودرب الآلام نحو الحرية". حدثنا عن أعمالك الأخيرة..
بعد أن خرجت من البلاد أصدرت في نفس العام كتاب المسألة العربية، وكنت قد بدأت بإعداده في البلاد وأنهيته في صيف ذلك العام في عمّان، وبعده بعام أصدرت كتاب أن "تكون عربيًّا في أيامنا". وكنت في حينها أتنقل بين عمان بيروت. والمشروع الرئيسي الذي أعمل عليه حاليًّا هو كتاب يجمع بين التاريخ والفلسفة وعلم الاجتماع وهو الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي، وقد صدر منه الجزء الأول كما تعلم وكان علي أن أصدر الجزء الثاني، إلا أنّ انشغالي بكتاب سورية: درب الآلام نحو الحرية أعاق العمل زمنيًّا، كما أن الجزء الثاني من الكتاب توسّع كثيرًا ليشمل تاريخ الفكرة العلمانيّة في الغرب، وآمل أن يصدر في بداية العام المقبل. أما الكتب عن الثّورة التونسيّة والثّورة السوريّة، وهنالك كتاب قريب عن الثّورة المصريّة، فهي دراسات مهمّة نظريا وسياسيا، فهي تساهم في تطوير نظريات العلوم الاجتماعية حول التغيير الاجتماعي في منطقتنا، وتعالج قضايا راهنة وتفسح المجال للتفكير العقلاني بشأنها، وهي تشكل في الوقت ذاته مصدرًا أكاديميًّا توثيقيًّا قريبًا من الأحداث. وما كان بالإمكان إصدارها خارج مركز أبحاث لأنها تتطلب عملًا توثيقيًّا طوال العام. من هنا فهي تجمع النظريّة والمنهج العلمي بتوثيق كم هائل من الأحداث والمواقف والبيانات يعملُ فيها باحثون في المركز، وسوف تتحول إلى أرشيف يتاح مستقبلًا للباحثين في هذه المرحلة الحاسمة من تاريخ أمتنا. وبموازاة العمل على الجزء الثّاني والثّالث من كتاب الدين والعلمانيّة في سياق تاريخي أعمل حاليًّا على إعداد مصدرٍ أكاديميٍّ حول الثّورة المصريّة. وهنالك أمور أخرى نعمل عليها من المبكر الحديث عنها الآن. أما ما ذكرته من "الثورة والقابلية للثورة" و"هل من مسألة قبطية في مصر؟" فهي دراسات مطولة صدرت ككتيبات في هذه الفترة أيضا.
- بشارة خلال توقيع كتابه الأخير "سورية: درب الآلام والحرية"
وهل كانت القضيّة الفلسطينيّة القضيّة الأولى بالنّسبة للأنظمة العربيّة في السابق؟ هذا وهم. القضيّة الفلسطينيّة هي القضيّة المركزيّة للأمّة موضوعيًّا، وإذا تصرفت كأمة. وهذا ما يجب أن يكون. ولكن بالنّسبة لغالبيّة الأنظمة العربيّة، كانت القضيّة الفلسطينيّة أداة في تبرير الوضع الراهن من دون أن تبذل جهدًا حقيقيًّا لمحاربة إسرائيل منذ عام 1973، ومن دون أن تبذل جهدًا حقيقيًّا حتى في إيجاد حلٍّ عادل للقضيّة الفلسطينيّة. والقضيّة الفلسطينيّة من ناحية أخرى كانت مركزيّة في ضمائر الشعوب العربيّة وما زالت كذلك، ولا أعتقد أنّ هذا سيتغير مستقبلًا.
لا شكَّ أنّه ستطرأ تغيرات كبرى على القضيّة الفلسطينيّة لناحية ضرورة تحديد المشروع الوطني الفلسطيني وأدواته. وبرأيي سيكون علينا أن نخاطب الشعوب العربيّة بعمق وكثافة أكثر وباحترام أكبر، فهي لم تعد خارج السياسة كما أنها منشغلة بقضايا ظلم وغبن لاحق بها تتوقع منّا أن نتفهمها كما تتفهم هي قضيتنا. ولا يجوز أن نأخذ الشعوب العربيّة رهائن لقضيتنا فحسب، بحيث نطالبها أن تسكت على الظلم بثمن تحويل قضية فلسطين إلى شعارات. ما يسيء لقضية فلسطين وللشعوب العربية في الوقت ذاته.
لقد حصل سابقًا تغيّر بنيوي في قضيّة فلسطين قبل الثّورات بكثير وقبل هذه الشروخ والانقسامات التي نشهدها الآن في المجتمعات العربيّة، وذلك عندما قرّرت القيادة الفلسطينيّة نفسها الدخول في عمليّة تفاوض مع إسرائيل كاستراتيجيّة وحيدة للوصول إلى حل. هذا هو تحديدًا ما أخرج قضيّة فلسطين من قضيّة العرب الأولى كما يجب أن تكون، إلى قضيّة الفلسطينيين بل إلى قضيّة جزء من الشعب الفلسطيني في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة مع تهميش الآخرين. الآن أصبحت لدينا قضيّة غزّة وقضيّة القدس وقضيّة الضفّة وقضيّة عرب 48 واللاجئين وغيره. هذه العمليّة بدأت في أوسلو وليس في الثّورات العربيّة، ولديك في بعض الحالات قيادات فلسطينية بنت استراتيجيتها على إخراج العرب من القضيّة الفلسطينيّة طيلة الفترة السّابقة. والمسألة ليست مسألة المكانة التي يحتلها الخبر الفلسطيني في النشرات: كخبر أول أو ثاني. وهذه ليست الحالة الأولى التي يتحوّل فيها الموضوع الفلسطيني إلى خبر ثاني أو ثالث أو رابع في نشرات الأخبار، اذكر معي حرب العراق وإيران والكويت والحرب الأهليّة في لبنان، ومع ذلك تمسكنا بمركزيّة قضيّة فلسطين لأننا نرى أن مركزيتها مرتبطة بوجود العرب كأمّة. أمّا إذا لم يتصرف العرب كأمّة سواء في دولهم القطريّة السابقة أو في الشروخ الطائفيّة، فإن قضيّة فلسطين ستكون قضيةً مركزيةً في الأمنيات فقط.
فصل المقال: بعد عشرين عامًا على مسار أوسلو والمفاوضات الفلسطينيّة الإسرائيليّة وعلى ضوء استئناف المفاوضات مؤخرًا، ما هو أُفق هذا المسار؟ وهل خيار المقاومة المطروح اليوم هو البديل؟ وما هو مستقبل الانقسام الفلسطيني الحاصل في اعتقادك؟
لا يوجد أفق لمسار أوسلو، ويا حبذا لو تراجع دراساتي ومقالاتي الرئيسية بهذا الشّأن منذ أوسلو. فلا يوجد موقف تفصيلي واحد كتبت عنه هناك إلا واتضحت صحته، وذلك ليس نتيجةً لامتيازٍ خاص بل لأنّ منهج التحليل الموضوعي والإخلاص لقضيّة فلسطين يقودك إلى هذه الاستنتاجات. فلم يختصر مسار أوسلو قضيّة فلسطين على الدّولة في الضفّة الغربيّة وقطاع غزّة (دون قضيّة اللاجئين، إلا لفظًا)، بل تبيّن أنه لا يقود حتى إلى تحقيق مشروعه المختزل في الضفّة والقطاع بأنه جعل نفسه رهينة توازن القوى بين المحتل والواقع تحت الاحتلال مع التخلي عن فكرة تغييره، وجعل نفسه أسيرًا للعلاقة الأميركيّة-الإسرائيليّة والرهان على التأثير الأميركي على إسرائيل. ولا حاجة لأفصّل عدد الأخطاء في أي عملٍ يقوم على فرضيّة توقّع أن تقوم الولايات المتحدة بفرض حلٍّ عادل على إسرائيل. فمنذ أوسلو حتى اليوم اتجهت غالبيّة الضغط الأميركي إلى الفلسطينيين، ولست بحاجة إلى أن أعدد لك عدد التنازلات العربية والفلسطينية التي أضيفت إلى إعلان المبادئ ذاك حتى اليوم. المسار التفاوضي في مأزق أكيد، وكذلك مسار المقاومة في أشكالها السابقة على طول الحدود التي حولتها إسرائيل إلى حالة حرب حقيقيّة وليست فقط افتراضيّة، إذ أنها تجيب على المقاومة بالحرب الشاملة على السكان، سواء أكان ذلك في لبنان أو غزة. أمّا في الضفّة الغربيّة، فهنالك بنية أمنيّة معقدة تشمل السلطة الفلسطينيّة، وهي مقتنعة علنًا وبموجب استراتيجيّة واضحة أنّ خيار المقاومة هو خصمٌ لها وليس فقط لإسرائيل، وهذا ليس تجنيًا بل هذا هو الموقف العلني والمنشور، والذي يجري التنظير له. وهي تتهم السلطة في غزة أنها في الواقع تتصرف بنفس الطريقة تجاه أعمال المقاومة ضد إسرائيل حين تريد الحفاظ على نفسها.
على كل حال هذا موضوع شائك، فلم يعد بالإمكان قول شيء موضوعي حول العلاقات الفلسطينيّة-الفلسطينيّة في هذه المرحلة. نظريًّا خيار المقاومة صحيح ولا يجوز الاستغناء عنه، ولكن عمليًّا هو غير قائم حاليًّا ككفاح مسلح، إلا كحالة دفاع عن النفس، أي أقل من مقاومة الاحتلال للتخلص منه. ولكنه منتشر بأشكال أخرى مبعثرًا في كل مكان بشكل جهود نضالية للحفاظ على الأرض وعلى الهويّة وضد شق هذا الشارع وبناء تلك المستوطنة. لم يمر يوم لم يقاوم فيه الشعب الفلسطيني الصهيونيّة والاحتلال بشكل من الأشكال، ولكن من يقول أن هنالك استراتيجيّة مقاومة واضحة وموحدة في الشتات وفي المناطق المحتلة يخدع نفسه برأيي. الحقيقة أنّ أشكال مقاومة الظلم يجب أن ترتبط بأمرين: الأمر الأوّل هو الظرف الموضوعي للشعب وحتى الجماعات السكانيّة المختلفة؛ وثانيًا المشروع الوطني، وهنالك علاقة عضويّة بين الوسيلة والهدف. ما هو المشروع الوطني الفلسطيني؟ وما هي الوسائل لتحقيقه بموجب الظروف الموضوعيّة للشعب الفلسطيني ولتجمعاته الفلسطينيّة المختلفة؟ هكذا يسأل السؤال، ولا بدَّ أن نعالجه ولا متسع لذلك في هذه المقابلة.
فصل المقال: كيف تصمد اسرائيل كدولة أبرتهايد في القرن الواحد والعشرين؟ إلى أين تتجه الدولة اليهودية في ظل رفض الدولة الفلسطينية وتفاقم ما يسمى "القضية الديمغرافية"؟
لا شكَّ أن تقويض أسس قيام دولة فلسطينيّة الجاري والمستمر بواسطة الاستيطان لن يجعل الشعب الفلسطيني يقبل بالأمر الواقع، وسوف يقود إلى تحديدات أخرى للمشروع الوطني الفلسطيني تتجاوز مشروع الدّولة. وأنا أتحدث هنا عن مجمل الحركة الوطنيّة وعن الشعب كشعب، وليس عن طروحاتٍ أكاديميّة. سبق أن حدّدنا طابع الفصل العنصري القائم في فلسطين سواء بالتشريد أو بالاحتلال كحالة فرض للوجود الاستعماري، وكتبت ذلك منذ عقود، ومؤخرا خصصت جزءا رئيسيا من كتابي "أن تكون عربيًّا في أيامنا" لهذا الموضوع. وفي السطر الأخير لا أعتقد أنه يمكن أن يكون هنالك مستقبل لنظام الفصل العنصري في عالمنا، وشرط ذلك أن نعي هذا الواقع وأن نبلور خطابًا سياسيًا ومشروعًا وطنيًا ضده، وكذلك التحالفات الدوليّة اللازمة.
فصل المقال: قلت مؤخرًا خلال لقاء في عمان أنه وفي السنوات القادمة، سيكون لعرب الداخل الدور المركزي والأهم على صعيد القضية الفلسطينية، ما هو هذا الدور تحديدًا ولماذا عرب الداخل؟
في حالة تبلور مشروع وطني مناهض لنظام الفصل العنصري في فلسطين فإن العرب في الداخل يشكلون حالة متقدمة في هذا المشروع إذ حافظوا على هويتهم الوطنيّة الفلسطينيّة والعربيّة. ونحن نعتقد أنّ بلورة مشروع دولة المواطنين مع الحفاظ على الهويّة العربيّة الفلسطينيّة للسكان الأصليين والحقوق الجماعيّة المرتبطة بها كان طبيعيًّا من هذه الناحية، وقد حدّد مسار نضال العرب في الداخل جميعًا، سواء من ناهضوا هذا الخطاب أو من أيدوه. فمنذ أن طُرح هذا الخطاب لم يعد نضال العرب في الداخل كما كان عليه، ولا عادت نظرة إسرائيل إليه كما كانت في السابق. وطابع النضال الذي نشأ على هذا الأساس، وهو طابع سياسي سلمي مناهض للفصل العنصري، ومتناقض مع الممارسة الاستعماريّة، ومتصادم مع الاستعلاء العنصري، ومتمسك بالمساواة الكاملة دون التنازل عما أسميته، إذ كنتم تذكرون، كبرياء السكان الأصليين. وهذه مسؤوليّة كبرى تقع على عاتق الشباب العربي في الداخل، وهو الجيل الذي سيقود المرحلة القادمة، والذي نبني آمالنا عليه.
No comments:
Post a Comment