رأي القدس
بعد يوم من إعلان مجلة ‘تايم’ الأمريكية ان فرنسيس الأول هو ‘شخصية العام’ قام بابا الفاتيكان بالقاء خطبة بمناسبة يوم السلام العالمي طالب فيها المسيحيين ألا ينقادوا وراء رغبة للربح او تعطش للسلطة وأدان في خطبته كل أنواع الاستغلال كالاسترقاق والدعارة والاتجار بالبشر والفساد وتجارة المخدرات ودعا الى السلام العالمي ونزع السلاح في كل أنحاء العالمِ.
أعلن البابا غضبه من ‘فضيحة’ الجوع في العالم وهاجم الرأسمالية والسعي الشرس وراء الربح ومظاهر البحث عن السعادة في مظاهر الاستهلاك والكسب الفاحش مطالباً الكنيسة برفع صوتها لتوصل للمسؤولين ‘صرخة وجع هذه البشرية المتألمة ووضع حد للأعمال العدائية وكل انتهاكات حقوق الانسان الاساسية’.
ورداً على انتقادات وجهت له من محافظين متشددين أمريكيين وصفوا خطبته الآنفة بأنها ‘ماركسية خالصة’ قال البابا في حديث مع صحيفة ايطالية امس انه لا يبالي اذا وصفه الناس بالماركسي قائلاً انه التقى في حياته الكثير من الماركسيين وهم أشخاص طيبون ولذلك، قال البابا، ‘لا أشعر بأن أحداً أساء إليّ’.
تصريحات شخص يرأس مؤسسة دينية كبرى فاعلة في العالم مثل الكنيسة الكاثوليكية دليل أكيد على حيوية هذه المؤسسة وقدرتها على الاستجابة للتغيرات الحاصلة في العالم، اضافة لتقديمها بوصلة أخلاقية قادرة أن تؤثّر وتساهم في تغيير نظرة البشرية لهذه المؤسسة، بعد عقود من الربط بينها وبين السياسات المحافظة سياسيا واجتماعياً، وفي تغيير الكنيسة نفسها، بحيث يساهم ذلك في تحسين أوضاع البشرية عموماً.
قدوم البابا من أمريكا اللاتينية (الأرجنتين)، هو انتصار رمزي لهذه القارة التي شهدت قبل عقود طويلة ظهور كنيسة جذرية معادية للاتجاهات المحافظة في الكاثوليكية، وهو، عملياً، مصالحة بين أوروبيّة الفاتيكان الجغرافية، وبين عالميّته، وخصوصاً في الأطراف المهمّشة والمعدمة في القارات الأخرى.
الحيوية والقدرة على التغيير اللتان ابدتهما الكنيسة الكاثوليكية تدفعان بالضرورة الى مقارنتها بأحوال الإسلام والمسلمين اليوم، وخصوصاً العرب منهم.
ما يميّز الكنيسة الكاثوليكية، هو المجال الكبير لحركتها وفعلها خارج تأثير القوى السياسية الأوروبية (وهو أمر كان يتناقص ويزيد بحسب الأحوال السياسية)، واختيار البابا فرنسيس الأول تعبير عن إمكانية أن تكون هذه المؤسسة أقرب الى رعاياها وأكثر تمثيلية لهم.
بالمقابل تتعرّض تمثيلية المرجعيات الاسلامية لضغط هائل تفرضه الاستقطابات الاجتماعية والسياسية الحادّة، والواضح أن بعض هذه المرجعيّات (كما في حالة الأزهر) يتم استخدامها في الصراع السياسي العنيف الحاصل في البلدان العربية بشكل يسيء كثيراً لها ولصورة الاسلام نفسه.
لا يعلم الكثيرون عن تعرّض الأئمة الاسلاميين الكبار: ابو حنيفة، ومالك بن أنس، والشافعي، وأحمد بن حنبل وابو عبدالله جعفر الصادق الى محن هائلة كادت تودي بحياة بعضهم، أو أودت بها، بسبب الصراع السياسي المرير في عصرهم، والذي اختار أغلبهم فيه موقف الثورة على الظلم، فقد رأى ابو حنيفة، على سبيل المثال، ان الثورة على الملك الأموي جائزة شرعاً (وكان الثائر عليه هو الإمام زيد بن علي)، ورفض ابو حنيفة أن يصبح فقيهاً للسلطان فأمر الخليفة العباسي المنصور بحبسه وجلده كل يوم عشرة أسواط حتى يقبل ان يكون قاضي الخليفة فلم يقبل.
ضُرب مالك بالسياط أيضاً و’مدّت يداه حتى انخلعت كتفاه’ لاتهامه بتأييد بيعة محمد النفس الزكيّة، كما اتهم الشافعي بتأييد آل البيت وكاد يقتل، وسجن ابن حنبل ثمانية وعشرين شهراً كان يضرب وينخس بالسيف فيها الى ان يغمى عليه وقيل ان جعفر الصادق مات مسموماً على يد المنصور.
يعجب المرء حين يرى رايات الطائفية تسود اليوم رغم أن أئمة الإسلام (السنّي) عانوا الأمرّين دفاعاً عن آل البيت، فقد فهم أولئك الدين باعتباره جهاداً ضد الظلم، وهو يتناقض مع حال الكثرة الغالبة من الفقهاء المسلمين الآن والذين يوظفون الدين (باسم السنّة او الشيعة) في خدمة الطغيان في سوريا ومصر والعراق وباقي بقاع العرب المظلومة.
No comments:
Post a Comment