رأي القدس
عام 1936 قدّم ماوتسي تونغ، زعيم الحزب الشيوعي الصيني، عرضاً مذهلاً لتشانغ كاي تشيك، رئيس الجمهورية الصينية حتى وقوعه في أسر جيش ماوتسي تونغ: أن يطلق سراحه ويعيّن قائداً عسكرياً لكل من القوات الشيوعية والجمهورية معاً مقابل اتحاد الجهتين ضد الاحتلال الياباني.
استخدم النظام السوري استراتيجية مشابهة باطلاقه سراح عدد كبير من الحركيين السلفيين المعتقلين لديه مع بدايات اشتداد عود الثورة السورية عام 2011 وبذلك قدّم لنفسه حليفاً موضوعياً ضد الحركة الثورية السورية، المدنية السلميّة أولاً، ثم المسلحة ثانياً.
قام النظام السوري بمكافحة الناشطين المدنيين السلميين دون هوادة بالاعتقالات والتعذيب، ثم قاتل المكونات المسلحة الأولى للمعارضة السورية بأشكال القتل والقصف والتدمير في الوقت الذي غضّ النظر فيه عن اشتداد قوة السلفيين الراديكاليين الذين تمددوا بهدوء الى أن تمكنوا من الاستيلاء على مناطق أنهك النظام فيها المعارضة السورية المسلحة وبعد سيطرتهم على مدن او مناطق أخذوا يقومون بدورهم باعتقال الناشطين المدنيين وتصفية المعارضين للنظام!
انضغطت المعارضة السورية المسلحة بين كفّي كماشة قوات النظام وكتائب الدولة الاسلامية في العراق والشام وشقيقاتها وحشرت ضمن معادلة صعبة: اذا تحالفت مع السلفيين فإنها لا تلبث أن تخسر شيئاً فشيئاً بيئاتها الحاضنة لصالح هؤلاء الأكثر تسليحاً وتمويلاً وتطرفاً ايديولوجياً وهي أمور تتصادى مع النتائج الاجتماعية والنفسية للقصف العشوائي لتلك المناطق والفوضى المتزايدة فيها بما يؤدي الى اليأس العدمي لدى الشعب السوري ويوفّر قبولاً لأفكار التطرف وتنظيماته.
لو ان المعارضة السورية اختارت قتال التنظيمات السلفية الراديكالية فهي ستقع بين ناري النظام السوري وهؤلاء وستستنزف قواها خصوصاً مع دخول حزب الاتحاد الديمقراطي (فرع حزب العمال الكردستاني التركي في سورية)، وحزب الله اللبناني وفصائل شيعية عربية وغير عربية في المعادلة ضدها.
بتحييد السلفيين حتى تزداد قوتهم على الأرض قام النظام عملياً بتدعيم نفوذهم في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية وفتح الطريق لتصوير هذه المعارضة في صورة التطرف الايديولوجي وتدعيم هذه الصورة في ظل ارتفاع موجة الاسلاموفوبيا المتنامية في العالم.
يطبق السلفيون، وخصوصاً ما يسمى ‘الدولة الاسلامية في العراق والشام’، سواء كانوا واعين أم غير واعين، بنود هذا التحالف الموضوعي بتركيزهم على الاستيلاء على المناطق البعيدة عن عصب حياة النظام متجنبين الاشتباك مع قواته، ثم بالتنازع مع المعارضة السورية على المواقع التي تدعم مواردها المالية مثل النفط ومعابر الحدود لمنعها من الاستفادة منها في صراعها مع النظام.
بعد اشتداد قوة السلفيين، تركزت استراتيجية النظام على ترك الأمور على غاربها لفوضى شاملة يقتتل فيها الجميع ضد الجميع، وتثار فيها النعرات الطائفية والإثنية، وتختلط فيها أوراق المعارضة بالاجرام والعمليات الاستخباراتية المشبوهة التي تنقصف فيها مواقع بعينها كمناطق أقليات دينية او سفارات اجنبية، او سيارات مفخخة لا تقتل غير المواطنين العابرين، وهي قضايا تثير شهية الاعلام العالمي السطحي الذي يتناول الأحداث بالطريقة التي تصبّ في طاحونة النظام.
لا يهمّ النظام، أثناء كل ذلك، أن البلد يفقد دون رجعة مناعته الوطنية ولحمته الاجتماعية متجهاً الى حالة الدولة الفاشلة التي لا يمكن أن تقوم لها قائمة، فكل همّه أن يحافظ رئيسه على سفينته المبحرة في دماء شعبه، وأن تحتفظ الطغمة المستفيدة من وجوده بحصتها من أرواح البشر وأموالهم، فيما كل ما حولهم يتداعى ويسقط وينهار.
أدت استراتيجية ماو الى دحر الهجوم الياباني، ثم القضاء على قوات تشان كاي تشيك وخروجه مع اتباعه الى تايوان، وبالنهاية الى تأسيس الصين الحديثة التي تقرّر الآن، الى حد كبير، مصير العالم، اما استراتيجية بشار الأسد فأدت الى دخول هذا البلد في ثقب أسود كبير وفقدان وزن تاريخي والى دمار هائل لم تتعرض له سوريا منذ أيام جنكيزخان وتيمورلنك، وفوق كل ذلك فقد أدت هذه الاستراتيجية الجنونية للنظام السوري الى فتح أحشاء المشرق العربي كله على أحقاد تاريخية لن تنطوي لأجيال قادمة.
No comments:
Post a Comment