بوصلة الألم
الياس خوري
تعيد غزة بمقاومتها وصمودها ودماء أطفالها رسم الأفق العربي من جديد، في زمن بدا فيه هذا الأفق وكأنه انهار في شكل كامل.
في زمن الخليفة العراقي الذي يلهو بطرد المسيحيين من الموصل، وصلب الفتيان ورجم النساء، وفي زمن الديكتاتور السوري الذي نجح في تشريد الملايين من السوريين وتدمير مدنهم وقراهم، وفي زمن الماريشال المصري الذي امتطى الثورة بهدف تفريغها من مضامينها الديموقراطية، ولا همّ له سوى معالجة فوبيا الإخوان بالقمع. في زمن الكاز والغاز الذي ينشر رائحة الخنوع والاستبداد، وفي زمن هستيريا الصراع الطائفي السني-الشيعي الذي يهدد بمحو الفكرة العربية، تأتي غزة كي تغسل الضمير العربي بالصمود والتحدي، وتعيد اللغة الى اللغة، وتصنع افقا محتملا للخروج من الانحطاط الذي حوّل المشرق العربي الى مزبلة للتاريخ.
مقاومة غزة التي تبدو وكأنها محاصرة بالخنوع العربي، هي باب الخروج من هذا الخنوع، عبر بوصلتها المجبولة بالقهر والدم. لا أريد أن أمجد البطولة، ولا أن امدح الألم. فغزة اليوم في قمة الألم، أطفالها يموتون، بيوتها تهدم، الالوف من سكانها، وهم في أكثريتهم الساحقة من اللاجئين، يشردون من جديد، وأرضها صارت مذبحة. لكن هذا الشريط الساحلي الفلسطيني في صموده الأسطوري، يعلن أن فلسطين لن تموت، وأنها قادرة على صنع معجزة المقاومة، حتى عندما يغطي الامريكان والروس والاوروبيون الجنون الدموي الاسرائيلي، الذي أعتقد أنه يستطيع اصطياد فلسطين وانهاء قضيتها من خلال تركيع غزة.
لكن صمود غزة وبطولة مقاوميها الشجعان، وصبر أهلها، يجب ان يكون فاتحة الكلام عن الأفق السياسي الفلسطيني برمته، الذي لا يزال عاجزا عن صوغ مشروعه في هذه اللحظة السياسية التي طغت عليها الالتباسات.
تعالوا ننظر في الواقع كما هو، بلا عمليات تجميل، ترقّع الثوب السياسي الفلسطيني المليء بالمزق.
حرب غزة الحالية هي النتيجة المنطقية لفشل ما اطلق عليه اسم «عملية السلام». اسرائيل لا تريد سلاما بل تريد تأبيد احتلالها وافتراس الأرض بالمستعمرات (التي يطلق عليها الاعلام اسما خاطئا هو المستوطنات). خيار قيادة السلطة انتهى الى لاشيء، وقام بتخريب اللغة السياسية الفلسطينية، وادى الى انهيار اخلاقي صاحب الإنهيار السياسي. لكن اوان اصلاح هذا الخطأ لم يفت بعد بشكل كامل. قبول حماس بحكومة الوحدة الوطنية، بعد انهيار المشروع الإخواني في مصر، يجب ان يكون مناسبة كي تتصرف السلطة بصفتها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، اي تشارك في المفاوضات ( كما تفعل الآن) وتشارك في المقاومة بشكل فعلي وفعّال (كما لا تفعل الآن).
ليس مطلوبا من السلطة اطلاق صواريخ لا تملكها، لكن المطلوب أكثر أهمية بكثير من اطلاق الصواريخ، المطلوب جمع الفصائل الفلسطينية والاتفاق على اهداف موحدة ورؤية مشتركة للحق الفلسطيني، والالتفاف حول فكرة مقاومة الاحتلال، بإعتبارها حقا لا يمكن التنازل عنه.
العمل السياسي المطلوب لا يهدف فقط الى انقاذ فلسطين من براثن التجاذبات الإقليمية، التي توحي وكأن حرب غزة هي حرب بين المحاور الإقليمية المتصارعة، بل بلورة مشروع فلسطيني موحد يفرض نفسه على جميع القوى الإقليمية. فالذي يريد دعم فلسطين وانقاذ غزة عليه أن ينضم الى المحور الفلسطيني، ويتوقف عن الإعتقاد أنه يستطيع استغلال الدم الفلسطيني لتحقيق مكاسب آنية، لا علاقة لها بالموضوع.
على الفلسطينيين أن يحددوا الموضوع اولا، ولا يسمحوا لأحد بامتلاك قرارهم بالنيابة عنهم. فلسطين هي الفاعل اليوم، ويجب ان لا تكون نائب فاعل او مفعولا به في هذه الفوضى الإقليمية المستشرية. وهنا على مناضلي فتح وكوادرها، وعلى الحركة الاسيرة، وعل مناضلي الجهاد وحماس والشعبية والديموقراطية رفع الصوت والدفع باتجاه ان يتوجه كل الجهد وكل البنادق وكل النضال ضد المحتل.
يجب اسقاط الهدف الإسرائيلي من الحرب وهو تجريد غزة من السلاح، كما يجب عدم الاستخفاف بقدرات الدولة الصهيونية، أو قراءة تردد جيشها في العملية البرية بشكل خاطئ. اسرائيل تملك قدرات عسكرية مخيفة، وشلّ هذه القدرات لا يكون بالمواجهة العسكرية فقط، على مركزية هذه المواجهة وأهميتها، بل يكون عبر مشروع نضالي يتألف من بندين:
البند الأول هو تحويل الأرض الفلسطينية بأسرها، من البحر الى النهر، ميداناً لهذه المعركة عبر عمل جماهيري كبير ومنظّم ومنسّق، يشمل جميع انحاء الضفة الغربية والقدس، ويمتد الى مناطق 1948. ليس المطلوب مظاهرات شبابية صغيرة، بل نزولا جماهيريا كثيفا الى الشوارع، في رام الله وحيفا والخليل ونابلس والناصرة وجنين وقلقيلية وشفا عمرو وام الفحم والقدس. عمل يتميز بطابعه الجماهيري السلمي، هدفه ارباك جيش الاحتلال، ومخاطبة الرأي العام العالمي. وعلى القوى الأمنية الفلسطينية ان تعلم أن دورها ليس قمع شعبها بل حمايته، وانه لن يسمح لها بأن تتصرف كوكيل لأمن المحتل ومنسق مع جيش الاحتلال.
البند الثاني، هو وضع حرب غزة على طاولة المفاوضات بصفتها جزءا من النضال الفلسطيني لانهاء الاحتلال. صحيح ان لغزة المحاصرة والمحتلة حقوقا مشروعة يجب التمسك بها، (هناك وهم أن غزة محررة، وهذا غير صحيح، غزة سجن كبير محاصر، ومقاومة أهلها اليوم يجب أن تقرأ بصفتها انتفاضة سجناء)، لكن على القوى الفلسطينية التي اجتمعت في حكومة واحدة ان تبلور شروطها الوطنية المرحلية، من رفع الحصار، الى وقف الوحش الاستعماري (الاستيطاني) الزاحف، الى اطلاق الأسرى، الى رفع القبضة الحديدية عن الضفة، الى التوقف عن مصادرة الأراضي.
غزة لا تقاتل اليوم دفاعا عن نفسها بل دفاعا عن فلسطين. وعلى حركة فتح ان لا تضيع فرصة عودتها الى العمل الفلسطيني المقاوم، وعلى كتائب شهداء الأقصى التي تم حلها بقرار سلطوي ان تعيد تشكيل نفسها كقوة فدائية مقاتلة.
الوحدة الفلسطينة اليوم هي شرط كسر معادلات الحاق القضية باجندات اقليمية هدفها تأبيد السلطات الاستبدادية او فرض اجندة اصولية على نضال وطني تحرري، يشكل اليوم الأفق الوحيد القادر على كسر الظلام الزاحف على المشرق.
فلسطين تصمد وتقاوم، اذاً هناك أمل، لأن هناك من يخترع الأمل.
في زمن الخليفة العراقي الذي يلهو بطرد المسيحيين من الموصل، وصلب الفتيان ورجم النساء، وفي زمن الديكتاتور السوري الذي نجح في تشريد الملايين من السوريين وتدمير مدنهم وقراهم، وفي زمن الماريشال المصري الذي امتطى الثورة بهدف تفريغها من مضامينها الديموقراطية، ولا همّ له سوى معالجة فوبيا الإخوان بالقمع. في زمن الكاز والغاز الذي ينشر رائحة الخنوع والاستبداد، وفي زمن هستيريا الصراع الطائفي السني-الشيعي الذي يهدد بمحو الفكرة العربية، تأتي غزة كي تغسل الضمير العربي بالصمود والتحدي، وتعيد اللغة الى اللغة، وتصنع افقا محتملا للخروج من الانحطاط الذي حوّل المشرق العربي الى مزبلة للتاريخ.
مقاومة غزة التي تبدو وكأنها محاصرة بالخنوع العربي، هي باب الخروج من هذا الخنوع، عبر بوصلتها المجبولة بالقهر والدم. لا أريد أن أمجد البطولة، ولا أن امدح الألم. فغزة اليوم في قمة الألم، أطفالها يموتون، بيوتها تهدم، الالوف من سكانها، وهم في أكثريتهم الساحقة من اللاجئين، يشردون من جديد، وأرضها صارت مذبحة. لكن هذا الشريط الساحلي الفلسطيني في صموده الأسطوري، يعلن أن فلسطين لن تموت، وأنها قادرة على صنع معجزة المقاومة، حتى عندما يغطي الامريكان والروس والاوروبيون الجنون الدموي الاسرائيلي، الذي أعتقد أنه يستطيع اصطياد فلسطين وانهاء قضيتها من خلال تركيع غزة.
لكن صمود غزة وبطولة مقاوميها الشجعان، وصبر أهلها، يجب ان يكون فاتحة الكلام عن الأفق السياسي الفلسطيني برمته، الذي لا يزال عاجزا عن صوغ مشروعه في هذه اللحظة السياسية التي طغت عليها الالتباسات.
تعالوا ننظر في الواقع كما هو، بلا عمليات تجميل، ترقّع الثوب السياسي الفلسطيني المليء بالمزق.
حرب غزة الحالية هي النتيجة المنطقية لفشل ما اطلق عليه اسم «عملية السلام». اسرائيل لا تريد سلاما بل تريد تأبيد احتلالها وافتراس الأرض بالمستعمرات (التي يطلق عليها الاعلام اسما خاطئا هو المستوطنات). خيار قيادة السلطة انتهى الى لاشيء، وقام بتخريب اللغة السياسية الفلسطينية، وادى الى انهيار اخلاقي صاحب الإنهيار السياسي. لكن اوان اصلاح هذا الخطأ لم يفت بعد بشكل كامل. قبول حماس بحكومة الوحدة الوطنية، بعد انهيار المشروع الإخواني في مصر، يجب ان يكون مناسبة كي تتصرف السلطة بصفتها قيادة لكل الشعب الفلسطيني، اي تشارك في المفاوضات ( كما تفعل الآن) وتشارك في المقاومة بشكل فعلي وفعّال (كما لا تفعل الآن).
ليس مطلوبا من السلطة اطلاق صواريخ لا تملكها، لكن المطلوب أكثر أهمية بكثير من اطلاق الصواريخ، المطلوب جمع الفصائل الفلسطينية والاتفاق على اهداف موحدة ورؤية مشتركة للحق الفلسطيني، والالتفاف حول فكرة مقاومة الاحتلال، بإعتبارها حقا لا يمكن التنازل عنه.
العمل السياسي المطلوب لا يهدف فقط الى انقاذ فلسطين من براثن التجاذبات الإقليمية، التي توحي وكأن حرب غزة هي حرب بين المحاور الإقليمية المتصارعة، بل بلورة مشروع فلسطيني موحد يفرض نفسه على جميع القوى الإقليمية. فالذي يريد دعم فلسطين وانقاذ غزة عليه أن ينضم الى المحور الفلسطيني، ويتوقف عن الإعتقاد أنه يستطيع استغلال الدم الفلسطيني لتحقيق مكاسب آنية، لا علاقة لها بالموضوع.
على الفلسطينيين أن يحددوا الموضوع اولا، ولا يسمحوا لأحد بامتلاك قرارهم بالنيابة عنهم. فلسطين هي الفاعل اليوم، ويجب ان لا تكون نائب فاعل او مفعولا به في هذه الفوضى الإقليمية المستشرية. وهنا على مناضلي فتح وكوادرها، وعلى الحركة الاسيرة، وعل مناضلي الجهاد وحماس والشعبية والديموقراطية رفع الصوت والدفع باتجاه ان يتوجه كل الجهد وكل البنادق وكل النضال ضد المحتل.
يجب اسقاط الهدف الإسرائيلي من الحرب وهو تجريد غزة من السلاح، كما يجب عدم الاستخفاف بقدرات الدولة الصهيونية، أو قراءة تردد جيشها في العملية البرية بشكل خاطئ. اسرائيل تملك قدرات عسكرية مخيفة، وشلّ هذه القدرات لا يكون بالمواجهة العسكرية فقط، على مركزية هذه المواجهة وأهميتها، بل يكون عبر مشروع نضالي يتألف من بندين:
البند الأول هو تحويل الأرض الفلسطينية بأسرها، من البحر الى النهر، ميداناً لهذه المعركة عبر عمل جماهيري كبير ومنظّم ومنسّق، يشمل جميع انحاء الضفة الغربية والقدس، ويمتد الى مناطق 1948. ليس المطلوب مظاهرات شبابية صغيرة، بل نزولا جماهيريا كثيفا الى الشوارع، في رام الله وحيفا والخليل ونابلس والناصرة وجنين وقلقيلية وشفا عمرو وام الفحم والقدس. عمل يتميز بطابعه الجماهيري السلمي، هدفه ارباك جيش الاحتلال، ومخاطبة الرأي العام العالمي. وعلى القوى الأمنية الفلسطينية ان تعلم أن دورها ليس قمع شعبها بل حمايته، وانه لن يسمح لها بأن تتصرف كوكيل لأمن المحتل ومنسق مع جيش الاحتلال.
البند الثاني، هو وضع حرب غزة على طاولة المفاوضات بصفتها جزءا من النضال الفلسطيني لانهاء الاحتلال. صحيح ان لغزة المحاصرة والمحتلة حقوقا مشروعة يجب التمسك بها، (هناك وهم أن غزة محررة، وهذا غير صحيح، غزة سجن كبير محاصر، ومقاومة أهلها اليوم يجب أن تقرأ بصفتها انتفاضة سجناء)، لكن على القوى الفلسطينية التي اجتمعت في حكومة واحدة ان تبلور شروطها الوطنية المرحلية، من رفع الحصار، الى وقف الوحش الاستعماري (الاستيطاني) الزاحف، الى اطلاق الأسرى، الى رفع القبضة الحديدية عن الضفة، الى التوقف عن مصادرة الأراضي.
غزة لا تقاتل اليوم دفاعا عن نفسها بل دفاعا عن فلسطين. وعلى حركة فتح ان لا تضيع فرصة عودتها الى العمل الفلسطيني المقاوم، وعلى كتائب شهداء الأقصى التي تم حلها بقرار سلطوي ان تعيد تشكيل نفسها كقوة فدائية مقاتلة.
الوحدة الفلسطينة اليوم هي شرط كسر معادلات الحاق القضية باجندات اقليمية هدفها تأبيد السلطات الاستبدادية او فرض اجندة اصولية على نضال وطني تحرري، يشكل اليوم الأفق الوحيد القادر على كسر الظلام الزاحف على المشرق.
فلسطين تصمد وتقاوم، اذاً هناك أمل، لأن هناك من يخترع الأمل.
No comments:
Post a Comment