Sunday, August 31, 2014

العدوان على غزة كحلقة من "حرب دينية"!

 أنطـوان شلحـت
مجرّد تصوير الحرب على غزة بوصفها جزءاً من حرب دينية متواصلة يتسبّب باستبطانها في لاوعي الجنود إن لم يكن في وعيهم التام أنه لا يجوز وقفها إلا من خلال تحقيق الحسم المطلق حتى ولو بثمن ارتكاب جرائم ضد "الكُفّـار"!*
                                                   ********
حفلت الحرب الإسرائيلية العدوانية الأخيرة على قطاع غزة بوقائع كثيرة تحيل إلى تحوّلات طرأت على المجتمع اليهودي في إسرائيل خلال الأعوام القليلة الفائتة، وانعكست بكيفية ما على تركيبة الجيش الإسرائيلي وعقيدتـه.
ولعل أبرز هذه الوقائع، هي واقعة قيام قائد لواء "غفعاتي" عوفر فينتر بتوزيع "أمر قتالي" على جنود اللواء في بداية الحرب، أشار فيه من ضمن أمور أخرى إلى أن المعركة العسكرية في القطاع هي جزء من حرب دينية تهدف إلى هزم "عدو يكفر بآلهة إسرائيل".
ومعروف أن جنود هذا اللواء كلفوا باستخدام "إجراء هنيبعل" في منطقة رفح في نطاق مساعي قوات الجيش الإسرائيلي لمنع اختطاف الضابط هدار غولدين، وقد تُرجم ذلك بقصف مكثف للأحياء السكنية، الأمر الذي تسبّب حتى وفق المصادر الإسرائيلية بقتل ما بين 130 إلى 150 فلسطينياً بينهم الكثير من النساء والأطفال من جراء هذا القصف فقط. واستمر القصف حتى بعد إعلان الجيش مقتل غولدين، وطال مدرسة تابعة للأونروا لجأ إليها آلاف اللاجئين، مما أدى إلى مقتل عدد كبير منهم.
وتحدث سكان رفح عن وقوعهم وسط فخّ من النيران حين أخذ الجيش الإسرائيلي يقصف المنازل ويهدمها على رؤوس ساكنيها من دون تمييز. وحتى عندما حاول هؤلاء الفرار من المنازل تعرضوا للقذائف وهم في الشوارع.
وبموجب ما يؤكد أحد أساتذة العلوم السياسية في "جامعة بن غوريون" في بئر السبع، فإن جرائم الحرب على مرّ التاريخ لم تُرتكب بفعل أوامر دينية فقط، غير أن إزالة الموانع أمام ارتكاب هذه الجرائم إلى ناحية شرعنتها يغدو أسهل عندما يتم تصوير الحرب على أنها حرب دينية ضد أناس كفّـار.
فضلاً عن ذلك، وفي حالة الحرب ضد غزة فإن مجرّد تصويرها لا باعتبارها ناجمة عن ظروف آنيّة مخصوصة وتتغيّا الوصول إلى أهداف سياسية، وإنما بوصفها جزءاً من حرب دينية متواصلة، يتسبّب باستبطانها في لاوعي الجنود إن لم يكن في وعيهم التام أنه لا يجوز وقفها إلا من خلال تحقيق الحسم المطلق.
إن هذه الواقعة تبدو ملفتة في ضوء حقيقة ازدياد حجم انخراط أبناء تيار الصهيونية الدينية ضمن القيادات التكتيكية للجيش الإسرائيلي وصفوف الجيش عامة على مدار العقدين الأخيرين.
وكان قيام إسرائيل قبل عدة أعوام بتعيين رئيس جديد لجهاز الأمن العام الإسرائيلي (الشاباك) من أوساط المتدينين (يورام كوهين) وقبله تعيين رئيس جديد لـ "مجلس الأمن القومي" من هذه الأوساط نفسها (يعقوب عميدرور، الرئيس السابق لهذا المجلس) قد شكّل مناسبة لاحتدام جدل داخلي حول ازدحام المحيط المقرّب من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو بشخصيات تعتمر القبعات الدينية، وما يمكن أن يترتب على ذلك من تداعيات أو مداليل سياسية باعتبار هذه الأوساط يمينية بامتياز.
وانقسمت آراء المتساجلين بين قائل إن هذا "التطوّر" يشي بإمكان شطط شيطان التطرّف لأن المتدينين سيسمعون أوامر حاخاميهم لا أوامر قادتهم عندما يعارض بعضها بعضاً، وبين مؤكد أن هؤلاء سيلتزمون متطلبات وظائفهم الرسمية ويخلصون لها حتى إذا خالفت آراء الحاخامين.
ويبدو هذا السجال الذي يُتوقع له أن يستمر مثيراً للاهتمام، خاصة في ضوء واقع أن وصول أشخاص متدينين إلى أرفع المناصب الأمنية في إسرائيل يعكس في العُمق تحولات بنيوية آخذة في التعاظم في الآونة الأخيرة داخل المجتمع الإسرائيلي نفسه، وتدل على أنه ماض نحو نزعات أكثر تديناً وبالتالي أشدّ يمينية.
ووفقًا لدراسة علمية في جامعة حيفا أنجزها البروفسور أرنون سوفير، أحد أبرز خبراء الشؤون الديمغرافية في إسرائيل، قبل عدة أعوام وحملت عنوان "إسرائيل 2010 - 2030: في الطريق إلى دولة دينية" فإن المتدينين اليهود سيشكلون أغلبية بين السكان في إسرائيل في العام 2030 بما من شأنه أن يؤدي إلى واحد من ثلاثة احتمالات:
أولاً، ألاّ تنجح الأغلبية العلمانية المتوفرة حالياً إلى حين حدوث هذا التحوّل الانعطافي في إقامة تحالف يدعم ثورة علمانية في جميع المجالات، وأساساً من جراء انعدام تقديم القضايا الاجتماعية على القضايا الأمنية؛
ثانياً، أن تستحيل إسرائيل إلى دولة تشمل مجتمعا دينياً وحريدياً متزمتاً يزداد باستمرار ويقترن ذلك باتساع حجم الفقر، وستكون هناك أقلية علمانية تقبل بنمط حياة دينية وبسلطة دينية؛
ثالثاً، قيام القيادة الدينية بدفع شعب إسرائيل نحو ضم الضفة الغربية ما سيؤدي إلى استمرار ضعف الديمقراطية (الشكليـة) أمام قوى معادية لها، وتوقف الكنيست عن أداء دوره، وازدياد الفوضى إلى درجة تحوّلها إلى أمر مألوف.
ولئن كان من المبالغة توقّع أن تفضي هذه التحولات على المدى البعيد إلى خلخلة ثوابت الفكر الصهيوني الجامح، إلا إنه يمكن تكهن أن تفجّر عاجلاً أم آجلاً معارك ضارية على جوهر نظام الحُكم الإسرائيلي وبالتالي على هوية الدولة مع ما يستلزم ذلك من حراك في شأن تدبّر الاختلاف الأيديولوجي. ولا شك في أن الوضع عندئذ سيكون مختلفاً كلياً على الصعيدين الداخلي والخارجي في إسرائيل واللذين يتضافران في واقع هذا الكيان وتاريخه مثل توأمين سياميين. 
ويُطرح السؤال: كيف تنعكس هذه التحولات على المستوطنين الكولون في المناطق المحتلة منذ العام 1967؟
تشير عدة أبحاث نُشرت في إسرائيل مؤخراً إلى أن الجماعة المسماة "شبيبة التلال" التابعة لتيار الصهيونية الدينية تشكل الجيل أو الرعيل الثاني من المستوطنين في الضفة الغربية المحتلة، غير أن سلوكها وتوجهاتها الفكرية مغايرة على نحو جوهري عن التوجهات الفكرية لآبائها الذين أسسوا في الماضي منظمة "غوش إيمونيم".
ويضيف بعض هذه الأبحاث أن أفراد هذه المجموعة يسعون إلى الانفصال عن الأجهزة التربوية القائمة وإلى الاعتزال في قمم تلال فارغة في الضفة الغربية، ولا يقبلون بسلطة الدولة ويتمسكون بأفكار غيبية متطرّفة.
وهذه التوجهات داخل التيارات اليهودية الأرثوذكسية عامة والصهيونية الدينية خاصة هي أرض خصبة لنشاط "حركات جبل الهيكل" التي تعمل على إعادة بناء "الهيكل" في الحرم القدسي الشريف. ويوجه معظمهم انتقادات شديدة إلى أداء "مجلس المستوطنات" والحاخامين وخاصة في أثناء تنفيذ خطة الانفصال عن قطاع غزة في العام 2005، ويؤكدون أنهم فقدوا الثقة بهم.
في موازاة ذلك تشير نتائج أحد هذه الأبحاث إلى توجيه "شبيبة التلال" انتقادات شديدة للمؤسسات القانونية والسلطوية من جهة، وإلى تفضيلها تعليمات الحاخامين المتطرفين من جهة أخرى.
بالتالي بالإمكان الافتراض أنه تجري بين مجموعة معينة منها عملية انتقال من التعامل الرسمي مع الدولة ومؤسساتها إلى التعامل الديني الصرف، وعملية تفضيل الحكم الديني الثيوقراطي على الحكم الديمقراطي. ولهذا المعطى أهمية بالغة في ضوء حقيقة أن الصهيونية الدينية التقليديـة رفعت راية الدمج بين الدين والدولة. وتجمع هذه الأبحاث على أن خطة الانفصال المذكورة والتي طرحت بقوة المعضلة التي تنشأ عندما يتعارض القانون الدنيوي مع القانون الديني، جعلت جزءًا من أبناء "شبيبة التلال" يرى في السلطة الدينية على أنها أعلى من السلطة القانونية الدنيوية.

No comments: