الياس خوري
في البداية أود الاعتذار من الروائي الأردني الكبير غالب هلسا لأنني قمت بتحريف عنوان روايته «ثلاثة وجوه لبغداد» من أجل أن أجد عنوانا لهذا المقال، الذي تهيمن عليه ثلاثة وجوه للوحش الذي تفوّق على السفاح في رواية «السؤال».
اعتذاري ليس صادقاً، فالوحش الذي يزرع بلادنا بالخوف والدمار، تفوّق على خيال الروائيين جميعاً، وجعل من الاحتجاج الأدبي على القمع صرخة خيال عاجزة عن اللحاق بفنتازيا الجريمة.
الوجه الأول في حلب، والمقصود ليس الجريمة المروعة التي تجري في المدينة الذبيح فقط، بل المذبحة الشاملة التي حولت سوريا بأسرها إلى حقول للموت. هنا قرر المستبدان بوتين والأسد الصغير ومعهما حليفهما الإيراني اللبناني، تحويل سوريا بأسرها إلى غروزني. فلقد استنتج بوتين أنه يستطيع استعادة انتصاره الهمجي، ولكن في سوريا هذه المرة، عبر تدمير مدن الشام بأسرها. أما الأسد الصغير فهو لا يتوقف عن الضحك ببلاهة أمام مشاهد الدمار التي يصنعها، وهو يخطط كيف سيجعل من موت السوريين درسا أبديا للشعب، ومادة تزيد من تراكم ثروته وثروة ابن خاله. كما يتابع الحليف الإيراني- اللبناني مشروع التطهير العرقي في سوريا، ضمن خيال طائفي مصاب بالعته، معتقدا أنه ينتقم اليوم لماض مندثر، لا يشبه إحياؤه الوهمي سوى الاحتفاء الإسرائيلي بالعودة إلى أرض ميعاد صنعتها الأسطورة الدينية.
في حلب، يجرّب الروس أسلحتهم وقنابلهم الفراغية والانشطارية والارتجاجية على الشعب السوري. والمضحك المبكي في هذه الحرب هو أن الدولتين العظميين لا تتقاتلان إلا بالدم السوري، أمريكا تقصف جيش الأسد في دير الزور فيردّ عليها الروس بقصف قوافل الإغاثة الذاهبة إلى حلب، ثم يتسع الرد بشكل جنوني، ليشمل كل شيء في المدينة.
لا حدود لتوحش السفّاح الذي يبيد الشعب السوري، ويقوم بتهجيره من أرضه، فلقد وجد في سوريا أرضا مستباحة، وشعبا تُرك وحيدا، وقيادات سياسية عاجزة، فاندفع في لعبة القتل من دون رادع.
لكن سوريا لا تواجه السفّاح وحدها، فلكل أرض في المشرق العربي سفاّحها الخاص، والسفاحون يلتقون في لعبة مصالح معقدة داخل تناقضاتهم، بحيث تختلط الأمور، فلم نعد ندري هل الأمريكان حلفاء الروس في الجريمة، أم مجرد متواطئين؟
غير أننا نعرف أن هناك سفاحاً آخر في الجنوب السوري، يقامر بكل شيء لأنه متيقن من أن دولاب هذا الزمن يدور لمصلحته، فيندفع إلى أقصى الجريمة خالعا أقنعته كلها.
الوجه الثاني للسفاح هو إسرائيل الليكودية. هنا تصل الوقاحة إلى ذروتها، نتنياهو يتهم الفلسطينيين وكل معارض للاحتلال في العالم بالتطهير العرقي! لأن المستوطنين اليهود في الضفة الغربية، يواجهون خطر التطهير العرقي!
الأمر لا يقتصر على كلام رئيس الحكومة الإسرائيلية الذي أعلن تعاطفه مع اليئور عازاريا قاتل الشهيد عبد الفتاح الشريف، أو على حرد وزيرة الثقافة الإسرائيلية ميري ريغيف بعدما دمج تامر نفّار مقطعا من قصيدة محمود درويش «بطاقة هوية» في حفل توزيع جوائز ‘أوفير’ في أسدود. وعقّب مغني الراب الفلسطيني الذي يحمل وشم غيتو اللد في صوته قائلا: « ريغيف لم تفهم كلمات القصيدة، رغم إمكانية الترجمة عن طريق مترجم غوغل»، وتابع «هناك مورفيكس (قاموس عبري – إنجليزي – عربي) وهناك ميري فيكس. هي لا تزعجني فحسب، لكن كل الحكومة تزعجني.»
الأوغاد في إسرائيل الذين يتابعون ملاحقة شاعر الجليل في قبره، لا يكتفون بالكلام، فالكلام بالنسبة لهم مدخل إلى القمع الوحشي الذي يمارسونه في فلسطين المحتلة، والذي اتخذ في الأسبوع الماضي شكلا جديدا عبر ملاحقة قياديين في حزب التجمع واعتقالهم. يعتقد السفّاح الإسرائيلي أنه يستطيع إعادة الفلسطينيات والفلسطينيين في داخل الداخل إلى الأقفاص التي حشرهم فيها بعد عام 1948، لكنه يتجاهل حقيقة أن هزيمة الفلسطينيين لم ولن تكتمل، وأن غبار الموت الذي يرشح من الخطاب الإسرائيلي ومن جنازير دبابات الاحتلال لم يعد يخيف أحداً، وأن المقاومة ستستمر وتتنامى ولن تتوقف.
حظر الحركة الاسلامية، وملاحقة التجمعيين، ليست سوى كلمات عابرة، يقولها ويمارسها «عابرون في كلام عابر».
السفاح الذي يتوحش في سوريا وفلسطين يتخذ شكلا كوميديا في لبنان، يجسّده وزير الخارجية ورئيس حزب «التيار الوطني الحر» الذي يتزعمه الجنرال عون. فجبران باسيل لا يتوقف عن ممارسة هوايته في «الاستهبال» المضحك. من إعلانه أنه يؤيد منح الجنسية إلى أولاد اللبنانيات المتزوجات من غير اللبنانيين، شرط أن يستثنى من ذلك المتزوجات من فلسطينيين وسوريين! وصولا إلى اقتراحه العبقري بإجبار منظمات الإغاثة على شراء موسم التفاح اللبناني الكاسد من أجل توزيعه على اللاجئين السوريين!
ما يبدو هزليا في كلام باسيل يخفي وحشية عنصرية تحوّل الكلام إلى سم. فهذا اللعب الطائفي بتشجيع من حزب الله الذي يتفرج على الفراغ اللبناني ويمارس الحرب والقتل في سوريا، يبدو مجرد نزوة أخيرة تقوم بها الجماعية العونية، لكنها نزوة قد تقود ليس إلى انتحار المارونية السياسية وحدها، بل إلى انفجار كبير في بلد صار ثلث المقيمين فيه من اللاجئين السوريين.
بدل أن يدافع اللبنانيون عن حدود بلادهم، يقوم جيش منهم باجتياح الأراضي السورية وتهجير الناس، معتقدا أن ولاية الفقيه لا تُهزم، ومستظلا الروس ومن يغطيهم هنا وهناك، من إسرائيل إلى أمريكا.
الوزير اللبناني الحصيف ليس سوى مراهق سياسي ساذج يسعى إلى السلطة، ولا يأبه إذا كان ثمن وصوله إليها هو تدمير الوطن الصغير على رؤوس أهله.
هل أخطأ غالب هلسا حين لم يستطع أن يذهب به الخيال إلى حيث يمكن للسفاح أن يمضي؟
أم أنه مثلنا جميعاً، وقع ضحية الأمل التاريخي، متناسياً أن التاريخ عربة يجرها حصان أعمى؟
No comments:
Post a Comment