Friday, October 21, 2016

مدن عربية بائسة

خليل العناني
مدن عربية بائسة
Link

لا يستطيع المرء، وهو يشاهد عمليات القصف والغزو والتدمير والإنهاك التي تعيشها مدن عربية، كانت يوماً من رموز الحياة العربية، بمعناها الحضاري والثقافي والإنسانوي، إلا أن يصيبه الحزن والأسى على ما وصلت إليه هذه المدن. فمن حلب، قلب الشام، وأقدم مدن الأرض، بحسب الحفريات والدراسات التاريخية، وقد حوّلها الروس ومليشيات بشار الأسد إلى كومةٍ من الركام وهجّروا أهلها، إلى الموصل، ثاني أكبر المدن والحواضر العراقية، ومقر كبرى القبائل العربية، بتنوعها المذهبي والديني والمرجعي، إلى القاهرة، بتاريخها وعمقها الحضاري والبشري، وقد تحولت إلى مدينة أشباح، قُتل فيها معنى الحياة بفعل القهر السياسي والاجتماعي الذي تئن تحت وطأته، ويكاد أن ينفجر في وجوه الجميع، وانتهاءً ببغداد التي باتت مدينةً مرعبة، بسبب التفجيرات والعربات المفخخة التي باتت جزءاً من الطقس اليومي، منذ غزوها وسقوطها في 2003.
ويزداد الأسى، حين يقارن المرء هذه المدن العربية بمدن وحواضر أخرى، سواء في المنطقة أو خارجها، نجحت في الاحتفاظ بعراقتها وإرثها التاريخي والحضاري، وأصبحت قِبلة للزائرين والباحثين عن معنى للذات وتكويناتها الهوياتية والتاريخية، كما الحال في إسطنبول، أو مدن غربية كفيينا ولندن وجنيف وفلورنسا وروما وقرطبة، فالسفر إلى هذه المدن والتجول في شوارعها وأزقتها أصبح متعةً بحد ذاتها، وخُلوة يهرب إليها المرء من جحيم القهر والصراع والاستقطاب الذي لم يترك مجتمعاً في منطقتنا لم يترك بصمته عليه.


بؤس المدن العربية أصله سياسي، وتمثلاته اجتماعية وإنسانية وهويّاتية، فالصراع الدامي الذي يجري الآن في الموصل، وتشارك فيه فئات وطوائف ومذاهب معينة، يسير عكس التاريخ الطويل لهذه المدنية التي تعايشت فيها هذه الفئات والطوائف والمذاهب قروناً. وما يجري في حلب من قصفٍ وتدمير وتهجير حوّلها إلى ما يشبه "مقبرة" كبيرة، يسير عكس طبيعة المدينة التي كانت رمزاً للحياة الثقافية والفكرية، ونموذجاً للتعايش العابر للهويات الفرعية، سواء المذهبية أو الإيديولوجية. والإفقار والإنهاك والإضعاف الممنهج لمدينةٍ عريقة كالقاهرة يسير تماماً عكس طبعيتها التي يجسّدها اسمها.


يتصارع السياسيون على السلطة والنفوذ، وبينما يفعلون، يدّمرون معهم التاريخ والإنسان ومعاني الحياة التي باتت لا تساوي لديهم شيئاً في مقابل بسط سيطرتهم وهيمنتهم علي الأرض، حتى وإنْ خلت من البشر، وإن فقدت المعنى. لذا، ليس غريباً أن تصبح المنطقة أقلّ مناطق العالم جاذبيةً للسياحة، وأكثرها خوفاً وقلقاً بفعل الصراعات العنيفة التي تجري الآن في أكثر من بلد عربي. وفي وقتٍ كانت فيه هذه العواصم مثار إعجاب للكثيرين، بات مجرّد ذكر اسمها مدعاةً للقلق والتوتر والرغبة في الانسحاب.


لذا، لم تعد المدينة العربية مركزاً للجذب أو التفاعل الحضاري والثقافي والإنساني، وإنما باتت هامشاً طارداً لكل من فيه، ورافضاً من هو خارجه، وذلك في حالةٍ من النكوص والارتداد لم تشهدها المنطقة، طوال المائة عام الأخيرة، فمنذ أواخر أوائل القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، كانت الإقامة في مدينة كالقاهرة حلماً يراود المثقفين والكتاب والمفكرين العرب، واستمرّت هذه الحال لفترة طويلة. وكذلك كانت الحال مع بيروت حتى منتصف السبعينيات، قبل أن تتحوّل إلى كومة من الرماد بفعل الحرب الأهلية الطويلة التي خاضتها طوائفها وجماعاتها ومكوناتها الاجتماعية.


لو أن مؤسس علم الاجتماع، ابن خلدون، كان معنا اليوم، لما كتب مقدمته التأسيسية في علم العمران، ولتحسّر على حجم الدمار والتفتت الذي أصاب المدن العربية الكبرى، ولتركها وهاجر مثلما يفعل الآن كثيرون من أهلها، بحثاً عن معنى جديد ومختلف للحياة.

No comments: