الياس خوري
امريكا هزمت في العراق
فالحرب التي بدأت كذبة موصوفة، تترنح اليوم باحثة عن نهايتها عبر هزيمة مدوية. الصلافة والعجرفة والحمق التي قادت جورج دبليو بوش الي الحرب، تقوده اليوم الي الهزيمة. امريكا تشرشحت والخطاب العصابي الذي صنعه امراء الظلام في البيت الأبيض، فقد كل معانيه. الديموقراطية وحقوق الانسان وتحرير العراق من الديكتاتورية، تهاوت امام العهر اللاأخلاقي الذي صنعه برنارد لويس وتلامذته الصغار. كنعان مكية توقف عن الرقص علي ايقاع القذائف وفؤاد عجمي لم يعد يجد ما يقوله، والي آخره. سفهاء الخطاب الحربجي الذين اتوا من وراء حجاب الكلام المكرر والتافه، لن يجدوا امامهم اليوم سوي التذكير بأن المشكلة كامنة في عدم قدرة العرب علي التأقلم مع قيم الحداثة. كأن الحداثة ليست سوي النهب والفظاظة والاستعلاء واهانة الروح.
امريكا هزمت في العراق. المحافظون الجدد الذين استولوا علي عاصمة الامبراطورية الامريكية لم يكونوا سوي مجموعة من الحمقي. غرور رامسفيلد وجنون تشيني لا يوازيهما سوي الحمق وقلة الذكاء والغرغرة الدينية الكابوسية عند الرئيس الامريكي الذي بدا كالمعتوه وهو يحط بطائرته الحربية علي حاملة الطائرات معلنا نهاية حرب لم تكن قد بدأت بعد. هزمت امريكا واشتغلت عند عدوها الايراني من دون ان تدري، وحولت القاعدة الي تنظيم دولي مهاب، وفرطت عظام العراق.
لم يكن من الممكن للغباء والادعاء حين يجتمعان سوي ان يقودا الي هذه البهدلة والبلبلة. واذا افترضنا جدلا ان امراء الظلام صنعوا اجتياح العراق من اجل خدمة اسرائيل، فان الغباء يكون قد وصل بهم الي مستويات لا سابق لها. اذ لم يسبق لاسرائيل ان سكرت بالقوة مثلما فعلت بعد اجتياح العراق، مما قادها الي حماقة حرب تموز في لبنان، حيث تلقت ضربة عميقة في معنوياتها العسكرية، والتحقت بالبهدلة التي يتعرض لها حليفها الامريكي.
لم يعد يفصلنا عن اعلان الهزيمة سوي الهزيع الأخير من هذا الليل الامريكي الدموي. لم يعد امام الولايات المتحدة من مخرج سوي الخروج من العراق. مهما قالوا او فعلوا، فإنهم ذاهبون من هنا اليوم قبل الغد وغدا قبل بعده. فلقد انتهت اللعبة الدموية بالدم، وفقدت امريكا هيبتها وسطوتها، وثبت ان التفوق التكنولوجي لا يصنع نصرا.
ولكن هل تعني هزيمة امريكا انتصار العرب او انتصار العراق؟
هذا هو السؤال الذي نخشي الاجابة عليه، لا لأننا لا نعرف الجواب بل لأننا نعرفه. هزيمة المحتل قد لا تعني انتصارا عربيا، بل قد تعني هزيمة عربية. وهنا تكمن المفارقة الاستراتيجية التي تجد المنطقة نفسها اسيرة لها.
ان قراءة الوضع الداخلي العراقي، رغم ندرة المعلومات تشير الي احد احتمالين:
الحرب الأهلية او/ والتقسيم. والواقع ان الحرب الأهلية والتقسيم هما احتمال واحد. اذ يصعب تخيل تقسيم سلمي علي الطريقة التشيكوسلوفاكية. بل اغلب الظن اننا امام احتمال يوغوسلافي في وحشيته وضراوته. بل ان الاحتمال اليوغوسلافي قد يكون اشد رحمة من حرب اهلية عراقية قد تكون مقدمة لانفجار الوضع برمته في المشرق العربي.
والسؤال هو عن احتمال ثالث لا يزال غائبا ولا نعثر علي علاماته. لماذا لا يوجد احتمال ثالث، كأن يخرج العراق من نكبة الاحتلال موحدا وديموقراطيا؟
هل ترتبط المسألة بالتيارات الاصولية التي ورثت الحركة الوطنية؟ هل يقود عبور التجربة الاسلامية الي حرب اهلية حتمية؟
قد تضيء التجربة الجزائرية المريرة جزءا من الجواب. نجاح الاسلاميين في الانتخابات الجزائرية قاد الي حرب طاحنة. غير ان المقارنة بالعراق ليست دقيقة، فالحرب خيضت بين الجيش الجزائري والاسلاميين، وفي داخل اجهزة السلطة. اما في العراق فلا وجود لجيش نظامي، كما ان عامل الانقسامات الطائفية والقومية قد يفضي الي كارثة اجتماعية لا يعلم احد كيفية الخروج منها.
الحرب سوف تكون اهلية بالمعني الحقيقي، ومثلما علمتنا التجربة اللبنانية، فانها لن تقتصر علي الصراع بين الطوائف، بل سيمتد الصراع الي داخل كل طائفة، وسوف يكون المشهد كناية عن مسلسل وحشي من الفوضي.
هل هذا ما سعت اليه الادارة الامريكية؟ ام جاء الأمر علي هذا الشكل نتيجة الحمق؟
اذا كان الجواب علي هذا السؤال غير واضح، فإن الواضح الوحيد هو ان التفكك الاجتماعي كان مشروع الديكتاتورية. الأنظمة الديكتاتورية الوراثية في المشرق العربي لا تقدم لشعوبها سوي الخيار بين الديكتاتورية والحرب الأهلية. وهذا سر بقائها الي الأبد . تجلس علي قمة هرم اجتماعي محطم، لا يجد لحمته الا في آلة القمع العسكرية. سقوط هذه الآلة سوف يعني انفلات الغرائز، لأن جميع مؤسسات المجتمع الاهلي تمت تصفيتها علي ايدي النظام.
هذه المعادلة الكارثية تهيمن علي حياتنا منذ عقود، واتي الغزو الامريكي ليزيد الامور تعقيدا وتعاسة. بحيث يجد العراق نفسه عاجزا عن استثمار هزيمة المحتل، لأن المحتل ورث معادلة الديكتاتور ولكن من دون قبضته الداخلية الحديدية.
العراق اليوم في المأزق، ولا سبيل الي خروجه من الكارثة الا عبر اعجوبة وطنية.
هل ولّي زمن الاعاجيب؟
واذا كان الامر كذلك، فهل انتهي العقل؟
العودة الي العقلانية ليست سهلة، لكنها قد تكون الطريق الوحيد كي لا تكون هزيمة امريكا في العراق الوجه الآخر لهزيمة العراق.
No comments:
Post a Comment