عبد الباري عطوان
لم يعد المرء قادراً علي احصاء عدد الشهداء، فهم يتزايدون في كل لحظة، وفي كل ساعة، فقد تشابهت المجازر وتكررت، وكل يوم جديد يحمل مجزرة جديدة. الضحايا انفسهم، والوجوه السمراء المؤمنة المطحونة نفسها، اطفال جوعي بملابس تكاد لا تستر اجسادهم الطرية، سيدات شهيدات، واخريات يندبن الشهداء من ابناء، بنات، ابناء عم، ابناء خال، زوج، أب، ام، او جميعهم، مثلما كان حال اسرة العثامنة التي قضت عليها قذائف المدفعية الاسرائيلية في مدينة بيت حانون الصامدة، ولم تبق من اطفالها السبعة، أحداً علي قيد الحياة، انضموا الي قوافل الشهداء مع والديهم واقاربهم.
نفهم ان يقف العالم الغربي المتحضر موقف المتفرج علي هذه المجازر، ولا يفاجئنا الدعم الامريكي لها باعتبارها دفاعا اسرائيليا عن النفس، ولكن ما يقهرنا هو هذه اللامبالاة العربية الرسمية والشعبية معا، وكأن قتل الاطفال الفلسطينيين وهم يتثاءبون استعدادا للذهاب الي مدارسهم امر عادي ومشروع.
نشعر بأسي عندما تسأل النساء الثكالي عن العرب، وجيوشهم، وحكامهم، لعل صرخات النجدة هذه التي يعلمن انه لن يستمع اليها أحد، أو حتي لو سمعوها فإنهم يديرون وجوههم الي الناحية الاخري، او يغلقون التلفاز، او يبحثون عن محطة اخري فيها من الطرب والرقص ما يروح عنهم صرخات من قبيل الهذيان التي تطلق في اللحظات العصيبة، فالفلسطينيون، مثلهم مثل اشقائهم العراقيين، يدركون جيداً ان دماء الحياء والشهامة باتت متجمدة، أو بالأحري غير موجودة في وجوه معظم الزعماء العرب وقادة جيوشهم.
ربما لا نبالغ اذا قلنا ان مجرد استنجاد الصامدين المجاهدين في الاراضي المحتلة هو تكريم لهؤلاء الزعماء لا يستحقونه، وشرف ليسوا اهلا له، ولذلك نتوسل الي هؤلاء الشرفاء الذين يدافعون عن كرامة هذه الأمة وعقيدتها ان ينسوا القادة العرب، ويتصرفوا وكأنهم ليسوا موجودين، واذا استنجدوا فمن الأجدي ان يستنجدوا بالقادة الآسيويين والافارقة، والامريكيين الجنوبيين من امثال اورتيغا وشافيز، أو باحمدي نجاد، او فلاديمير بوتين لان احتمالات ان يستجيب هؤلاء اكبر بكثير من معظم القادة العرب.
فالسيد عمر سليمان رئيس المخابرات المصرية ومبعوث الرئيس مبارك لن يهرع الي بيت حانون بحثا عن اشلاء ضحايا المجزرة الاسرائيلية من اطفالها، مثلما فعل مهرولا للبحث عن اعضاء جندي اسرائيلي فجر فلسطينيون دبابته في رفح، مهددا متوعدا بعظائم الامور اذا لم يحصل عليها فورا لإعادتها الي شارون حتي يتمكن اهل الجندي من اتمام مراسم دفنه وفق الشريعة اليهودية.
القيادة المصرية المسؤولة اخلاقيا وقانونيا عن كل طفل في قطاع غزة لا تستطيع فتح معبر رفح الحدودي، وتعزز حراسة حدودها لمنع وصول رصاصة واحدة الي رجال المقاومة، ولكنها لم تكف ومنذ ثلاثة اشهر عن السعي للافراج عن الجندي الاسرائيلي الأسير لعلها تنال رضا ايهود اولمرت، تمهيداً لنيل رضا المعلم الاكبر جورج بوش، مما يسهل عملية التوريث التي تضعها علي قمة اولوياتها بينما يتراجع الأمن القومي المصري الي ذيلها.
ولعل مصيبتنا الكبري هي ما يقوله السيد محمود عباس رئيس السلطة من تصريحات تنزل برداً وسلاماً علي قلب ايهود اولمرت وليبرمان وحالوتس كأن يركز هجومه علي مطلقي الصواريخ علي المستوطنات الاسرائيلية بكلمات قاسية، مبرراً هذه المجازر ومعفيا هؤلاء من أي لوم.
لم نسمع، وعلي مدي ستين عاما من متابعتنا للصراع العربي ـ الاسرائيلي، ان زعيماً اسرائيلياً، من اقصي اليمين او اقصي اليسار، قد قال وفي ذروة الغضب من جراء عملية استشهادية في قلب تل ابيب، ان الغارات والتوغلات الاسرائيلية في الضفة وغزة تعطي الذرائع لفصائل المقاومة، لإرسال الاستشهاديين المزنرين بالأحزمة الناسفة الي شارع ديزنغوف، او مدينة الخضيرة، او في القدس المحتلة.
فالمنطق يقول ان يركز السيد عباس باعتباره رئيسا لهذا الشعب المنكوب، علي الجرائم الاسرائيلية التي لا يمكن تبريرها بأي شكل من الاشكال، لانها لا يمكن ان تقارن بأي عمل فدائي فلسطيني. ولكن يبدو ان منطق السيد عباس من نوع آخر نتمني ان نعرف مصدره، لانه لا يمت بأي صلة لقيمنا وتراثنا وعقيدتنا.
اسرائيل لا تريد ذرائع لارتكاب مجازرها، فهل كان الفلسطينيون يطلقون صواريخ عندما ارتكبت مجازر دير ياسين والقبية وصبرا وشاتيلا؟ نسأل السيد عباس ونحن ندرك جيدا انه يعرف الاجابة.
الفلسطينيون لا يملكون صواريخ كروز ولا توماهوك ولا حتي الكاتيوشا ، لانهم محاصرون بأنظمة عربية ترتعد خوفا من اصغر شاويش امريكي، علي عكس ايران التي فتحت ترساناتها لحزب الله، ليغرف منها ما شاء من الأسلحة والصواريخ والذخائر والاموال.
نفهم، ولكن لا نقبل، ان يمتنع الزعماء العرب عن نجدة الثكالي في رفح وبيت حانون وجنين ونابلس، ونفهم ولا نتفهم، اغلاق حدودهم بإحكام لمنع وصول اسلحة الي رجال المقاومة، ولكن لا نفهم ولا نتفهم ولا نتقبل خضوعهم لهذا الحصار المالي التجويعي لأكثر من ثلاثة ملايين فلسطيني يموتون جوعا بسبب الحصارين الامريكي والاسرائيلي.
القادة الافارقة كسروا الحصار الجوي علي ليبيا وركبوا طائراتهم وحطوا في مطاراتها تحديا للغطرسة الامريكية، ولكننا لم نسمع ان زعيما عربيا واحدا تحركت كرامته ودماء النخوة في عروقه، وقرر كسر الحصار المالي، ولا نقول العسكري المفروض علي الفلسطينيين.
الغارات والصواريخ والقذائف الاسرائيلية قتلت حتي الآن اكثر من 500 فلسطيني واعتقلت 1500 آخرين بينهم وزراء ونواب برلمان، منذ اسر الجندي الاسرائيلي، فأي عدالة هذه وأي انبطاح امامها من قبل العالم بأسره وعلي رأسهم الحكومات العربية، انها عدالة نازية، عدالة شايلوك. فالتوراة التي يؤمنون بها تقول العين بالعين والسن بالسن، ولكننا نري 500 عين مقابل عين واحدة، و500 سن مقابل سن واحدة، والاخطر من هذا ان الجندي الاسرائيلي الأسير ما زال حيا يرزق.
القيادة السياسية الفلسطينية برأسيها، يجب ان تتحمل مسؤوليتها وان تتصرف بطريقة ترتقي الي مستوي الحدث. فأمر مخجل ان يكون هناك من يصدق انه رئيس سلطة او رئيس حكومة او وزير ويناديهم البعض من المنافقين بفخامة الرئيس او دولة رئيس الوزراء، وكأن هناك دولة او رئاسة.
قلناها، ونقولها، ان وجود هذه السلطة أحد ابرز الاعذار لهذه المجازر الاسرائيلية، فعندما لا تحمي شعبها، ولا تكسر الحصار المفروض عليه، وتخفف من معاناته، فما هي فائدتها ولماذا تستمر؟
لا بد من العودة الي المربع الاول، مربع المقاومة للإحتلال وإزالة كل ما قام علي باطل اوسلو والعودة الي صيغة محدثة لمنظمة التحرير الفلسطينية، والانضمام الي معسكر الكرامة الدولي المعادي لهذه العجرفة الامريكية المتوحشة والارهابية.
No comments:
Post a Comment