**
الانتفاضة هي الحل
عبد الحليم قنديل
**
"نخشى ـ إن ظلت الأمور على حالها ـ أن تتحول القدس إلى صفحة حنين فى كتاب التاريخ، أو إلى خزانة أغاني على طريقة فيروز في شدوها الملائكي.
نخشى أن تتحول القدس إلى موضوع للمراثي، وإلى زحام صور في ألبوم ذكريات عتيقة، وأن تصبح مدينة الأنبياء سكنا مفضلا للأشقياء.
فثمة حرب إبادة ومحو لعروبة القدس، وخطط تنفذ منذ عقود لتهويدها على نحو كامل، وجعل الوجود العربي فيها بقايا صور، والارتفاع بسقف 'الكنس' اليهودية عن سقف المسجد الأقصى، وجعل المقدسيين غرباء في قدسهم، وتحويل المدينة المقدسة إلى حائط مبكى تجف دموعه مع تقادم الوقت.
وقد شهدت القدس علينا، شهدت على خيبتنا الجامعة، على مذلة حكامنا، وعلى صمت شعوبنا، ونهايتنا إلى متاهة قلوب تطمس الضمائر، وكأن القصة كلها في المسجد الأقصى على عظمة قدره، بينما المسجد الأقصى رمز للقدس ولعروبة فلسطين كلها، فهو ليس مجرد دار للعبادة، وحرمه الشريف ليس مجرد متاجر لبيع التذكارات، وخلع أساسات المسجد الأقصى بالحفريات تحته، وبالإغارات المنتظمة على بنيانه، وسعي إسرائيل لتحطيمه وتهديمه، هذه كلها نذر خطر تلخص ما يجري للقدس كلها، والتي تبدل إسرائيل في هويتها، وفى شوارعها، وفي مبانيها، وفي موازين سكانها، وتسعى لطرد آخر عربي منها بالتوازي مع هدم آخر حجر في المسجد الأقصى.
يعنى ذلك ـ ببساطة ـ أن نغير فى فهمنا لرمزية المسجد الأقصى، فالمسجد المقدس ليس مجرد بناية تاريخ، وليس مجرد مسرى للنبي الكريم، إنه اختصار لحقائق وجود وحياة مهددة بالاقتلاع، والدفاع عنه ليس حفظا لحجر على قداسته، بل دفاع عن بشر ووطن يتسع من حول أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد كان المسجد الأقصى عنوانا لانتفاضة فلسطينية عارمة فى بدايات القرن الجاري، وهي الانتفاضة الثانية التى مزجت الحجارة بالسلاح والعمليات الاستشهادية، وأنجزت للشعب الفلسطيني جلاء نسبيا للاحتلال عن غزة، وتفكيكا لمستوطناتها، وبيانا عمليا عن الطريق الوحيد الممكن للتحرير، وهو المقاومة بما ملكت الأيدي من سلاح، والنفوس من غضب، والأرض من حجارة مقدسة تماما كحجارة المسجد الأقصى.
ولا أحد عاقل ـ أو نصف عاقل ـ يتصور طريقا آخر، فقد جرى تجريب كل الخيارات الأخرى، وفشلت، ولم تؤد المفاوضات والتسويات ـ إياها ـ إلا إلى خراب القدس وتهديد المسجد الأقصى، وأصبح واضحا أن الخطر ليس في عدوانية إسرائيل وحدها، ولا في فرضها لحقائق التهويد الاستيطاني على الأرض، ولا في استثمارها للتواطؤ الدولي، ولغفلة الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل ليست المجرم الوحيد، بل هي رأس حربة الإجرام المسنود أمريكيا، ومعها في نفس التشكيل الإجرامي آخرون منا، فلسطينيون يرتدون الكوفية على سبيل التمويه، وملوك ورؤساء وأمراء الطوائف العرب، وكلهم شركاء ـ بالتواطؤ ـ في جريمة تهويد القدس وطمس الحق الفلسطيني.
ثم أن الإنصاف يقتضي توشجيه بعض اللوم لتيار المقاومة في الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد أدى اندفاع حــــماس للمشاركة فى خدعة الانتخابات الفلسطينية، وسعيها المتعــــجل لبناء سلطة على أرض لم تتحرر بعد، ثم الوقوع ـ باستطراد الحوادث ـ في انقسام بدا صراعا على سلطة، وليس دفاعا عن مشـــروع المقاومة بالسلاح، أدت هذه التطورات إلى خيبة تنطوي على مفارقة مريرة، فقد بدا الطرفان في سباق إلى تسوية، وإلى أوهام مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، وسعى إلى هدنة مطولة أو إلى سلام موهوم، ومع تجميد فعلي لمشروع المقاومة والانتفاض الفلسطيني.
صحيح أنه لا يمكن التسوية فى مقادير الخطأ، لكن الخطيئة وقعت على أي حال، ورسمت مسارات تغري بالتقدم إلى الحائط المسدود، وبدا الحديث عن المصالحة الفلسطينية، وكأنه سعى إلى مصالحة إسرائيل، وطاعة هواها علنا أو ضمنا، بينما المطلوب : مصالحة مع القدس، وليس مع إسرائيل، وهو ما لن يحدث بمصالحة تجري أو تتعثر بين عباس وحماس، ولا بتوقيعات توشك في هذه العاصمة العربية أو تلك، فالأهم من شكـــل المصالحة هو مضمونها، وما تؤدي إليه بالضبط، الأهم هو كنس سلطة أوسلو، ووقف الاحتراب عليها بالانقسام أو بالمصالحة، وإزالة العقبة الكبرى التي تعترض طريق المقاومة، والانتقال إلى تنظيم قوى الكفاح الفلسطيني سياسيا و عسكريا في إطار فعال، ومن حول برنامج مباشر يعطي الأولوية الآن لمهمتين عاجلتين، هما إستكمال تحرير غزة، وإشعال انتفاضة جماهيرية ثالثة في الضفة والقدس.
ورغم ظواهر محزنة تطغى على السطح، فقد بدا شعاع الفرح متوهجا طالعا من رماد العذاب الفلسطيني، بدت الامكانية قائمة لبدء انتفاضة ثالثة، وتدافعت موجات أولية ـ ولكن محسوسة ـ تشق نهر الفداء من جديد، وبأجيال شابة طالعة وأطفال مدارس، ودارت مواجهات باسلة في القدس ومدن الضفة ضد قوات الاحتلال، وتوالت قوافل الحجارة والشهداء والأسرى، وهو ما قد يصح أن يكون موضع العناية والانتباه الأول، وأن يكون الموقف منه هو معيار الفرز الوحيد، فالذين يصادمون التحول لانتفاضة ثالثة هم أعداء وخونة الشعب الفلسطيني، والذين يدعمون ويرعون بواكير 'انتفاضة القدس' هم أهل فلسطين وحملة الأمانة المقدسة، صحيح أنه جرى إنهاك الجهاز التنظيمي لمنظمات المقاومة في الضفة، وباعتقالات شبه يومية تجري بتواطؤ وتشارك علني مفضوح بين قوات الاحتلال وقوات الجنرال دايتون الحارسة لسلطة عباس، لكن الروح الفلسطينية الجديدة تبدو ملهمة، والتحول الذي يجرى في قطاعات من حركة فتح يبدو إيجابيا، والمطلوب: كنس موضوع السلطة قضية الصراع الظاهرة، وإحلال الموقف من الانتفاضة الثالثة كقضية أولى تجب غيرها، خاصة أن القدس ـ في خرائط الحال الفلسطيني ـ تبدو محطة لقاء واجتماع ممثلي لقطاعات الشعب الفلسطيني كله، فالفلسطينيون في الأرض المحتلة ـ منذ حرب 1948 ـ طرف مباشر في قضية القدس والمسجد الأقصى، وقد لعبوا الدور الأبرز إلى الآن في تعزيز حس الانتفاض المقدسي والفلسطيني مجددا، لعبوا أدوارا أكبر مما كان عليه الأمر في الانتفاضة الثانية، ثم أن نار القوة الاسرائيلية الهمجية تحرق ما تبقى من أوراق عباس، وتكشف عورات سلطتها البائسة أمام الشعب الفلسطينى، وتجعلها فى صدام مباشر مع أولوية المقدس الفلسطينى الذي ترمز إليه القدس والمسجد الأقصى، وهو ما يتيح قوة معنوية أكبر لحماس والجهاد والجبهة الشعبية والقادة المستقلين لتعويض وتجاوز العجز التنظيمي الموقوت.
وباختصار، فإن انتفاضة القدس هي الحل الآن، وكل ما عداها باطل وقبض ريح.
"
الانتفاضة هي الحل
عبد الحليم قنديل
**
"نخشى ـ إن ظلت الأمور على حالها ـ أن تتحول القدس إلى صفحة حنين فى كتاب التاريخ، أو إلى خزانة أغاني على طريقة فيروز في شدوها الملائكي.
نخشى أن تتحول القدس إلى موضوع للمراثي، وإلى زحام صور في ألبوم ذكريات عتيقة، وأن تصبح مدينة الأنبياء سكنا مفضلا للأشقياء.
فثمة حرب إبادة ومحو لعروبة القدس، وخطط تنفذ منذ عقود لتهويدها على نحو كامل، وجعل الوجود العربي فيها بقايا صور، والارتفاع بسقف 'الكنس' اليهودية عن سقف المسجد الأقصى، وجعل المقدسيين غرباء في قدسهم، وتحويل المدينة المقدسة إلى حائط مبكى تجف دموعه مع تقادم الوقت.
وقد شهدت القدس علينا، شهدت على خيبتنا الجامعة، على مذلة حكامنا، وعلى صمت شعوبنا، ونهايتنا إلى متاهة قلوب تطمس الضمائر، وكأن القصة كلها في المسجد الأقصى على عظمة قدره، بينما المسجد الأقصى رمز للقدس ولعروبة فلسطين كلها، فهو ليس مجرد دار للعبادة، وحرمه الشريف ليس مجرد متاجر لبيع التذكارات، وخلع أساسات المسجد الأقصى بالحفريات تحته، وبالإغارات المنتظمة على بنيانه، وسعي إسرائيل لتحطيمه وتهديمه، هذه كلها نذر خطر تلخص ما يجري للقدس كلها، والتي تبدل إسرائيل في هويتها، وفى شوارعها، وفي مبانيها، وفي موازين سكانها، وتسعى لطرد آخر عربي منها بالتوازي مع هدم آخر حجر في المسجد الأقصى.
يعنى ذلك ـ ببساطة ـ أن نغير فى فهمنا لرمزية المسجد الأقصى، فالمسجد المقدس ليس مجرد بناية تاريخ، وليس مجرد مسرى للنبي الكريم، إنه اختصار لحقائق وجود وحياة مهددة بالاقتلاع، والدفاع عنه ليس حفظا لحجر على قداسته، بل دفاع عن بشر ووطن يتسع من حول أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وقد كان المسجد الأقصى عنوانا لانتفاضة فلسطينية عارمة فى بدايات القرن الجاري، وهي الانتفاضة الثانية التى مزجت الحجارة بالسلاح والعمليات الاستشهادية، وأنجزت للشعب الفلسطيني جلاء نسبيا للاحتلال عن غزة، وتفكيكا لمستوطناتها، وبيانا عمليا عن الطريق الوحيد الممكن للتحرير، وهو المقاومة بما ملكت الأيدي من سلاح، والنفوس من غضب، والأرض من حجارة مقدسة تماما كحجارة المسجد الأقصى.
ولا أحد عاقل ـ أو نصف عاقل ـ يتصور طريقا آخر، فقد جرى تجريب كل الخيارات الأخرى، وفشلت، ولم تؤد المفاوضات والتسويات ـ إياها ـ إلا إلى خراب القدس وتهديد المسجد الأقصى، وأصبح واضحا أن الخطر ليس في عدوانية إسرائيل وحدها، ولا في فرضها لحقائق التهويد الاستيطاني على الأرض، ولا في استثمارها للتواطؤ الدولي، ولغفلة الفلسطينيين والعرب، فإسرائيل ليست المجرم الوحيد، بل هي رأس حربة الإجرام المسنود أمريكيا، ومعها في نفس التشكيل الإجرامي آخرون منا، فلسطينيون يرتدون الكوفية على سبيل التمويه، وملوك ورؤساء وأمراء الطوائف العرب، وكلهم شركاء ـ بالتواطؤ ـ في جريمة تهويد القدس وطمس الحق الفلسطيني.
ثم أن الإنصاف يقتضي توشجيه بعض اللوم لتيار المقاومة في الحركة الوطنية الفلسطينية، فقد أدى اندفاع حــــماس للمشاركة فى خدعة الانتخابات الفلسطينية، وسعيها المتعــــجل لبناء سلطة على أرض لم تتحرر بعد، ثم الوقوع ـ باستطراد الحوادث ـ في انقسام بدا صراعا على سلطة، وليس دفاعا عن مشـــروع المقاومة بالسلاح، أدت هذه التطورات إلى خيبة تنطوي على مفارقة مريرة، فقد بدا الطرفان في سباق إلى تسوية، وإلى أوهام مفاوضات مباشرة أو غير مباشرة، وسعى إلى هدنة مطولة أو إلى سلام موهوم، ومع تجميد فعلي لمشروع المقاومة والانتفاض الفلسطيني.
صحيح أنه لا يمكن التسوية فى مقادير الخطأ، لكن الخطيئة وقعت على أي حال، ورسمت مسارات تغري بالتقدم إلى الحائط المسدود، وبدا الحديث عن المصالحة الفلسطينية، وكأنه سعى إلى مصالحة إسرائيل، وطاعة هواها علنا أو ضمنا، بينما المطلوب : مصالحة مع القدس، وليس مع إسرائيل، وهو ما لن يحدث بمصالحة تجري أو تتعثر بين عباس وحماس، ولا بتوقيعات توشك في هذه العاصمة العربية أو تلك، فالأهم من شكـــل المصالحة هو مضمونها، وما تؤدي إليه بالضبط، الأهم هو كنس سلطة أوسلو، ووقف الاحتراب عليها بالانقسام أو بالمصالحة، وإزالة العقبة الكبرى التي تعترض طريق المقاومة، والانتقال إلى تنظيم قوى الكفاح الفلسطيني سياسيا و عسكريا في إطار فعال، ومن حول برنامج مباشر يعطي الأولوية الآن لمهمتين عاجلتين، هما إستكمال تحرير غزة، وإشعال انتفاضة جماهيرية ثالثة في الضفة والقدس.
ورغم ظواهر محزنة تطغى على السطح، فقد بدا شعاع الفرح متوهجا طالعا من رماد العذاب الفلسطيني، بدت الامكانية قائمة لبدء انتفاضة ثالثة، وتدافعت موجات أولية ـ ولكن محسوسة ـ تشق نهر الفداء من جديد، وبأجيال شابة طالعة وأطفال مدارس، ودارت مواجهات باسلة في القدس ومدن الضفة ضد قوات الاحتلال، وتوالت قوافل الحجارة والشهداء والأسرى، وهو ما قد يصح أن يكون موضع العناية والانتباه الأول، وأن يكون الموقف منه هو معيار الفرز الوحيد، فالذين يصادمون التحول لانتفاضة ثالثة هم أعداء وخونة الشعب الفلسطيني، والذين يدعمون ويرعون بواكير 'انتفاضة القدس' هم أهل فلسطين وحملة الأمانة المقدسة، صحيح أنه جرى إنهاك الجهاز التنظيمي لمنظمات المقاومة في الضفة، وباعتقالات شبه يومية تجري بتواطؤ وتشارك علني مفضوح بين قوات الاحتلال وقوات الجنرال دايتون الحارسة لسلطة عباس، لكن الروح الفلسطينية الجديدة تبدو ملهمة، والتحول الذي يجرى في قطاعات من حركة فتح يبدو إيجابيا، والمطلوب: كنس موضوع السلطة قضية الصراع الظاهرة، وإحلال الموقف من الانتفاضة الثالثة كقضية أولى تجب غيرها، خاصة أن القدس ـ في خرائط الحال الفلسطيني ـ تبدو محطة لقاء واجتماع ممثلي لقطاعات الشعب الفلسطيني كله، فالفلسطينيون في الأرض المحتلة ـ منذ حرب 1948 ـ طرف مباشر في قضية القدس والمسجد الأقصى، وقد لعبوا الدور الأبرز إلى الآن في تعزيز حس الانتفاض المقدسي والفلسطيني مجددا، لعبوا أدوارا أكبر مما كان عليه الأمر في الانتفاضة الثانية، ثم أن نار القوة الاسرائيلية الهمجية تحرق ما تبقى من أوراق عباس، وتكشف عورات سلطتها البائسة أمام الشعب الفلسطينى، وتجعلها فى صدام مباشر مع أولوية المقدس الفلسطينى الذي ترمز إليه القدس والمسجد الأقصى، وهو ما يتيح قوة معنوية أكبر لحماس والجهاد والجبهة الشعبية والقادة المستقلين لتعويض وتجاوز العجز التنظيمي الموقوت.
وباختصار، فإن انتفاضة القدس هي الحل الآن، وكل ما عداها باطل وقبض ريح.
"
No comments:
Post a Comment