ميشيل كيلو
"....
أما اليوم فليس الحدث السوري من صنع تنظيم، مسلحا كان أم غير مسلح، بل هو أقرب إلى تمرد شعبي يختلف عن أحداث 78 – 82 بما يلي:
1- مشاركة مختلف القوى الاجتماعية فيه. لسنا اليوم أمام تنظيم يستغل موقفا عدائيا من النظام ويخترق أوساطا هي الأكثر تأخرا في طبقة وسطى مدينية حرمت من التنمية وحجر عليها سياسيا، تمردت في حماه وجزئيا في حلب. اليوم، تشارك قطاعات كبيرة من العلمانيين والمتدينين في تمرد تجمعهما شعارات ومطالب تبدو أقرب إلى العلمانية ومأخوذة من قاموسها كالمواطنة والحرية الفردية والدولة الديموقراطية / المدنية والفرد الحر والمجتمع المدني... الخ، بينما كانت في الحدث السابق دينية صرفة، نفرت المجتمع العلماني واستفزته ووضعته منذ البداية في صف النظام أو حيدته، خاصة بعد أن تبنت مقولات وشعارات طائفية هددت بإشعال حرب أهلية كان السوريون وما زالوا في أغلبيتهم ضدها. هكذا، في الماضي، أخذ التمرد طابعا جعله يبدو كتمرد ضد الدولة والمجتمع، أما اليوم، فالتمرد في جوهره هو تمرد باسم المجتمع ضد سلطة ظلمته وقوضت دولته، التي يريد استعادتها والرضوخ لها كدولة حق وقانون. ثمة إذاً تبدل جذري في كل ما له علاقة بالحدثين، واختلاف في مفرداتهما جميعها: البشرية والمجتمعية والسياسية والقيمية. بما أن الأول كان مسلَّحا وعنيفا، فقد كان من المفهوم أن يجابه بالسلاح والعنف، وإن كان استخدامهما الرسمي مفرطا جعل عدد ضحاياهما كبيرا إلى حد تجاوز كثيرا قمع النواة المسلحة ذاتها إلى قمع المجتمع، الذي ضرب دون تمييز، حتى بدا أن لا هدف للعنف غير سحقه.
2- مشاركة الريف بقسم وازن من النشاط الاحتجاجي، بينما كان الريف معاديا في الحدث الأول، وكان المجتمع الأهلي مشاركا بجزء محدود من قوته في المدينتين، ومحايدا تماما في معظم المدن والبلدات السورية. اليوم، المجتمع الأهلي، مجتمع الريف المديني أوالمدن الريفية، هو حامل الاحتجاج الحقيقي في كل مكان من أرض سوريا. يفسر هذا اتساعه وحدّته وانخراط قطاعات متزايدة الحجم من السكان المهمشين فيه. بارتباط المجتمع المدني الحديث ممثلا في مئات آلاف الشبان والشابات، وعشرات آلاف المثقفين من مختلف المهن والاختصاصات، مع المجتمع الأهلي، الذي تبنى مقولاتهم وأهدافهم السياسية الحديثة. تغير طابع المعركة، فلم تعد بين "سلطة تقدمية وقطاعات اجتماعية محافظة أو رجعية"، كما كان يقال عن معركة 78-82، وإنما صارت بين مجتمع علماني / ديني / مدني / أهلي وسلطة فقدت تواصلها معه وتمثيلها له، اكتسبت طابعا محافظا معاديا لطموحاته، بدافع من رغبتها في الحفاظ على نظام سلطوي أنتج مجتمعه انطلاقا من مصالحه، لا هم له غير منع مجتمعه من كسر الطوق السياسي الشديد الضيق الذي كبله بقيوده، رغم ما عرفه من نمو في جسده الخاص، وعاشه من تحديث جدي وحقيقي في أبنيته ووعيه، خلال نيف وأربعين عاما من عمر النظام. منطقيا، لا يحتاج المجتمع اليوم إلى استخدام العنف، ما دام لن يهزم سلميا، ويرفض أن ينقسم على نفسه، لأن الانقسام يؤذيه ويضعف قضيته وقدراته وقد يفضي إلى هزيمته، خاصة بعد أن بدأ يتبلور تيار داخل النظام يريد ملاقاة مطالبه في منتصف الطريق، تبنى مؤخرا لغة قريبة من لغة معارضي الأمر القائم وخصومه، وبدأ يتحدث عن الانتقال إلى الدولة الديموقراطية المدنية، والتعددية والــنظام التمثيلي وكأنها لم تعد لغة لكسب الوقت، بل هي لغة قناعات راسخة، أملاها عليهم الاقتناع بضرورة تلبية مطالب الشعب في نظام بديل للنظام الحالي، الذي فقد مرجعيته بالنسبة إلى كثير من أنصاره، وغدا من الواضح أن التمرد الاحتجاجي الواسع لن يتوقف دون إجراء تغيير جدي فيه. لا يحتاج المجتمع إلى العنف، ولديه أدلة على قوة النزعة السلــمية وقدرتها تزوده بها تجارب راهنة في تونس ومصر واليمن، بلد الشعب المسلح حتى الأنياب، الذي يرفض الرد بالنار على النار، مع أن بنادقه في متناول يده، التي على الزناد. بينما تعلمه تجربة ليبيا أن النظام هو الذي يلجأ إلى العنف، كي يسد أبواب الحلول السياسية، ويبقي على السلطة.
لسنا في أعوام 78- 82 مكررة ومعدلة. هذا هوالواقع السوري الراهن، الذي حاولت رصد أهم ملامحه بإيجاز، لأصل إلى نتيجة ترى أن تكرار الحل القمعي الذي مورس في الماضي على الحال الراهنة كان هو، وليس المؤامرة، الاستثناء السوري، فلا عجب أنه كان محكوما بالفشل حتى قبل أن يبدأ، وأن ما أدخل عليه من تعديلات تراعي الوضع الحالي لن يجدي نفعا، ما دام يعالج وضعا لا يملك أدوات علاجه، ويعتمد نهجا لا يرد على أسئلته، ويقدم حلا لمشاكله وأزماته يزيدها تعقيدا وتأزما.
عند بدء الأحداث، كان هناك رأي يقول بإعادة إنتاج السياسة انطلاقا من الواقع الجديد، على أن يلتقي في مشروع كهذا جزء من أهل النظام مع المعارضة والشباب والمجتمع الأهلي، فيتم عزل الفتنة ودعاتها والقضاء على أي مؤامرة قد تنشأ أو تكون موجودة. لكن الأحداث سارت في اتجاه معاكس، جعل السلطة ترى في حملة الواقع الجديد العدو الذي يجب القضاء عليه، بالقوة. بذلك دخلنا في الاستثناء السوري، الذي يجعل أسلوب إدارة الأزمة أشد مكوناتها خطورة وتعقيدا، ويأخذنا جميعا، يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، إلى كارثة لم يعد باستطاعة أحد إنكار وقوعها، وربما منعه.
"
"....
أما اليوم فليس الحدث السوري من صنع تنظيم، مسلحا كان أم غير مسلح، بل هو أقرب إلى تمرد شعبي يختلف عن أحداث 78 – 82 بما يلي:
1- مشاركة مختلف القوى الاجتماعية فيه. لسنا اليوم أمام تنظيم يستغل موقفا عدائيا من النظام ويخترق أوساطا هي الأكثر تأخرا في طبقة وسطى مدينية حرمت من التنمية وحجر عليها سياسيا، تمردت في حماه وجزئيا في حلب. اليوم، تشارك قطاعات كبيرة من العلمانيين والمتدينين في تمرد تجمعهما شعارات ومطالب تبدو أقرب إلى العلمانية ومأخوذة من قاموسها كالمواطنة والحرية الفردية والدولة الديموقراطية / المدنية والفرد الحر والمجتمع المدني... الخ، بينما كانت في الحدث السابق دينية صرفة، نفرت المجتمع العلماني واستفزته ووضعته منذ البداية في صف النظام أو حيدته، خاصة بعد أن تبنت مقولات وشعارات طائفية هددت بإشعال حرب أهلية كان السوريون وما زالوا في أغلبيتهم ضدها. هكذا، في الماضي، أخذ التمرد طابعا جعله يبدو كتمرد ضد الدولة والمجتمع، أما اليوم، فالتمرد في جوهره هو تمرد باسم المجتمع ضد سلطة ظلمته وقوضت دولته، التي يريد استعادتها والرضوخ لها كدولة حق وقانون. ثمة إذاً تبدل جذري في كل ما له علاقة بالحدثين، واختلاف في مفرداتهما جميعها: البشرية والمجتمعية والسياسية والقيمية. بما أن الأول كان مسلَّحا وعنيفا، فقد كان من المفهوم أن يجابه بالسلاح والعنف، وإن كان استخدامهما الرسمي مفرطا جعل عدد ضحاياهما كبيرا إلى حد تجاوز كثيرا قمع النواة المسلحة ذاتها إلى قمع المجتمع، الذي ضرب دون تمييز، حتى بدا أن لا هدف للعنف غير سحقه.
2- مشاركة الريف بقسم وازن من النشاط الاحتجاجي، بينما كان الريف معاديا في الحدث الأول، وكان المجتمع الأهلي مشاركا بجزء محدود من قوته في المدينتين، ومحايدا تماما في معظم المدن والبلدات السورية. اليوم، المجتمع الأهلي، مجتمع الريف المديني أوالمدن الريفية، هو حامل الاحتجاج الحقيقي في كل مكان من أرض سوريا. يفسر هذا اتساعه وحدّته وانخراط قطاعات متزايدة الحجم من السكان المهمشين فيه. بارتباط المجتمع المدني الحديث ممثلا في مئات آلاف الشبان والشابات، وعشرات آلاف المثقفين من مختلف المهن والاختصاصات، مع المجتمع الأهلي، الذي تبنى مقولاتهم وأهدافهم السياسية الحديثة. تغير طابع المعركة، فلم تعد بين "سلطة تقدمية وقطاعات اجتماعية محافظة أو رجعية"، كما كان يقال عن معركة 78-82، وإنما صارت بين مجتمع علماني / ديني / مدني / أهلي وسلطة فقدت تواصلها معه وتمثيلها له، اكتسبت طابعا محافظا معاديا لطموحاته، بدافع من رغبتها في الحفاظ على نظام سلطوي أنتج مجتمعه انطلاقا من مصالحه، لا هم له غير منع مجتمعه من كسر الطوق السياسي الشديد الضيق الذي كبله بقيوده، رغم ما عرفه من نمو في جسده الخاص، وعاشه من تحديث جدي وحقيقي في أبنيته ووعيه، خلال نيف وأربعين عاما من عمر النظام. منطقيا، لا يحتاج المجتمع اليوم إلى استخدام العنف، ما دام لن يهزم سلميا، ويرفض أن ينقسم على نفسه، لأن الانقسام يؤذيه ويضعف قضيته وقدراته وقد يفضي إلى هزيمته، خاصة بعد أن بدأ يتبلور تيار داخل النظام يريد ملاقاة مطالبه في منتصف الطريق، تبنى مؤخرا لغة قريبة من لغة معارضي الأمر القائم وخصومه، وبدأ يتحدث عن الانتقال إلى الدولة الديموقراطية المدنية، والتعددية والــنظام التمثيلي وكأنها لم تعد لغة لكسب الوقت، بل هي لغة قناعات راسخة، أملاها عليهم الاقتناع بضرورة تلبية مطالب الشعب في نظام بديل للنظام الحالي، الذي فقد مرجعيته بالنسبة إلى كثير من أنصاره، وغدا من الواضح أن التمرد الاحتجاجي الواسع لن يتوقف دون إجراء تغيير جدي فيه. لا يحتاج المجتمع إلى العنف، ولديه أدلة على قوة النزعة السلــمية وقدرتها تزوده بها تجارب راهنة في تونس ومصر واليمن، بلد الشعب المسلح حتى الأنياب، الذي يرفض الرد بالنار على النار، مع أن بنادقه في متناول يده، التي على الزناد. بينما تعلمه تجربة ليبيا أن النظام هو الذي يلجأ إلى العنف، كي يسد أبواب الحلول السياسية، ويبقي على السلطة.
لسنا في أعوام 78- 82 مكررة ومعدلة. هذا هوالواقع السوري الراهن، الذي حاولت رصد أهم ملامحه بإيجاز، لأصل إلى نتيجة ترى أن تكرار الحل القمعي الذي مورس في الماضي على الحال الراهنة كان هو، وليس المؤامرة، الاستثناء السوري، فلا عجب أنه كان محكوما بالفشل حتى قبل أن يبدأ، وأن ما أدخل عليه من تعديلات تراعي الوضع الحالي لن يجدي نفعا، ما دام يعالج وضعا لا يملك أدوات علاجه، ويعتمد نهجا لا يرد على أسئلته، ويقدم حلا لمشاكله وأزماته يزيدها تعقيدا وتأزما.
عند بدء الأحداث، كان هناك رأي يقول بإعادة إنتاج السياسة انطلاقا من الواقع الجديد، على أن يلتقي في مشروع كهذا جزء من أهل النظام مع المعارضة والشباب والمجتمع الأهلي، فيتم عزل الفتنة ودعاتها والقضاء على أي مؤامرة قد تنشأ أو تكون موجودة. لكن الأحداث سارت في اتجاه معاكس، جعل السلطة ترى في حملة الواقع الجديد العدو الذي يجب القضاء عليه، بالقوة. بذلك دخلنا في الاستثناء السوري، الذي يجعل أسلوب إدارة الأزمة أشد مكوناتها خطورة وتعقيدا، ويأخذنا جميعا، يوما بعد يوم وساعة بعد ساعة، إلى كارثة لم يعد باستطاعة أحد إنكار وقوعها، وربما منعه.
"
No comments:
Post a Comment