"من أكثر الوقائع إيلاماً في التاريخ الحديث للمشرق العربي أن يصبح السريان، على سبيل المثال، مجرد جوال متناثرة في بقاع العالم المختلفة، وهم الذين منحوا اسمهم للأرض الممتدة بين جبال طوروس وزاغروس وسيناء، فصارت تدعى سوريا. وهذا المصير نفسه الذي انتهى إليه صابئة العراق والكلدان والأشوريون من شأنه ان يفاقم ظاهرة الاندثار والانحلال للأقوام الحضارية القديمة في الشام والعراق. وفي مصر التي عرفت تطابق اسم الشعب مع اسم الأرض ولدت كلمة
Eygept من كلمة «القبط».
وما يثير الأسى حقاً أن تندثر من سجلات التمدن في المشرق العربي مدن عظيمة كالرها ونصيبين وحران ورأس العين وانطاكيا وماردين وجنديسابور. وكثيرون اليوم يريدون أن يواروا في غياهب النسيان تاريخ مصر البهي وحقائقه التي ما زالت ماثلة حتى اليوم. ولعل الأقباط في مصر يمثلون مشكلة ملتبسة فعلاً.
فهم سكان مصر القدماء، مع أن المسلمين أيضاً، او الجزء الأكبر منهم، هم سكان مصر الأصليون أيضاً. وكل ما في الأمر ان قسماً من الشعب اعتنق المسيحية في حقبة ما، ثم اعتنق كثيرون منه الإسلام مع الفتح العربي أو في مراحل أخرى. فلا أحد، في هذه الحال، يكون مصرياً أكثر من الآخر على الإطلاق. ومع ذلك فثمة مشكلة قبطية في مصر، هي مشكلة هوية ومشكلة مواطنة، ومشكلة دينية، ومشكلة نظام سياسي في الوقت نفسه.
.....
يقول عزمي بشارة: «إن أي نظام ديموقراطي مقبل في مصر لا يمكنه الاكتفاء بالتشديد على تآخي الطوائف، وسيكون عليه ان يعالج قضايا عينية (ص 8). ويخلص إلى الاستنتاج أن هناك ملفاً قبطياً مفتوحاً، ويؤكد ان الأقباط المصريين لا يحتاجون إلى التسامح فهم مواطنون أصليون لا يحتملون، من حيث وعيهم بذاتهم، أي نوع من التمييز. ومفتاح التعامل مع هذا الملف هو المواطنة المتساوية، والديموقراطية هي الاطار الملائم لهذه المقاربة (ص 70). فهل يتحمل النظام السياسي المصري الجديد هذه الصيغة؟ وهل تتمكن مصر من اعادة الاعتبار لمبادئ ثورة 1919 العلمانية والليبرالية؟ أم ان سيطرة الإسلاميين على الرئاسة وعلى السلطة التشريعية سيحول دون انطلاقة المصريين نحو تأسيس نظام سياسي عصري يعانق تطلعات المصريين بمن فيهم المصريون الأقباط؟
إن كتاب عزمي بشارة هذا محاولة ثاقبة لفهم الأقباط في تطلعاتهم وإحباطاتهم، في حراكهم ونكوصهم، في شغفهم بمصر ورغبتهم في مغادرتها. والكتاب على صغر حجمه (78 صفحة من القطع الصغير) يفيض بالأفكار والآراء والتحليل والخلاصات التي تشتـبك معرفياً بالرغبة في ابتداع الحلول.
"
No comments:
Post a Comment