أخشى ما أخشاه أن تشحب خيارات المستقبل في مصر بحيث تصبح مفتوحة على السيناريوهات
الثلاثة: الجزائري والروماني والتركي.
فهمي هويدي
"....
استبعدتُ السيناريو الجزائري حين سئلت في الموضوع، وأرجعت ذلك إلى عوامل عدة،
منها ما يتعلق بطبيعة النظام وطبيعة المجتمع وجغرافية البلد، وطبيعة الحركة
الإسلامية هناك. حيث لا وجه للمقارنة بين نظام ما بعد "25 يناير" في مصر وبين
الهيمنة التقليدية للجيش والأمن على الدولة الجزائرية، ثم إن الشخصية الجزائرية
الصحراوية تتسم بالحدة وسرعة الانفعال، على عكس الشخصية المصرية التي تشكلت على
ضفاف النيل. كما أنه لا وجه للمقارنة بين جغرافية الجزائر بأحراشها وغاباتها التي
تعد مسرحاً مواتياً لإطالة حرب العصابات، وبين جغرافية الأرض المصرية المنبسطة التي
لا توفر ملاذاً للمقاتلين. إضافة إلى هذا وذاك، فإن المد الإسلامي الحديث في
الجزائر، برغم عمقه التاريخي، لم يتوافر له إطار تنظيمي إلا في أواخر الثمانينيات
التي تشكلت فيها رابطة الدعوة ومن عباءتها خرجت جبهة الإنقاذ. أعني أن الحركة
الإسلامية هناك لم يتوافر لها إطار مؤسسي ولا تراث فكري يعبر عنها، على العكس من
الوضع القائم في مصر، حيث يتجاوز عمر حركة "الإخوان" مثلا أكثر من ثمانين
عاماً.
لهذه الأسباب فإنني استبعدتُ احتمال تكرار تجربة الاقتتال الشرس الذي شهدته
الجزائر في مصر، وبرغم أنني لا أستبعد أن يولد عنف السلطة عنفا آخر من بعض الشباب
الذين يتعذر السيطرة على انفعالاتهم، إلا أنني أرجّح أن يظل ذلك في إطار محدود، قد
يتبدى في بعض الحوادث التي لا تشكل ظاهرة مجتمعية. أو هكذا أتمنى.
.....
بقى أمامنا النموذج التركي الذي أخشى أن يكون مرشحاً للتطبيق في مصر، وفي الأفق
إشارات لا ينبغي الاستهانة بها توحي بذلك، ما أعنيه بالنموذج التركي تحديداً هو أن
يصبح الجيش عنصر القوة في الساحة السياسية، بحيث يمارس دوره ليس فقط في حماية
الوطن، ولكن أيضاً في مراقبة الوضع السياسي الداخلي ومباشرة نوع من المسؤولية
إزاءه.
أنوه في البداية إلى أن الجيش في تركيا له مكانة شديدة الخصوصية، من حيث إنه من
أنقذ البلد من الاحتلال والانهيار بعد الحرب العالمية الأولى، ثم إنه هو من أقام
الجمهورية وطوى صفحة الإمبراطورية العثمانية، الأمر الذي يعني أن له أفضاله على
سلامة المجتمع يتعذر نكرانها. هذه الخلفية وضعته في مكانة الحارس للنظام الجمهوري
ومبادئ العلمانية التي قام عليها النظام، لا الحارس لحدود البلد وأمنه فقط، وبسبب
النص على حراسته للنظام الجمهوري فإنه اعتبر نفسه وصياً على الدولة، ومن هذا الباب
أجرى أربعة انقلابات (في السنوات 1960 و1971 و1980 و1997)، والأخير اعتبر انقلاباً
أبيض ووصف بأنه انقلاب "بعد حداثي"، سنتحدث عنه بعد قليل.
.....
ما حدث بعد ذلك استعاده بعض من علقوا على الانقلاب الأخير الذي حدث في مصر، حين
شبهوا ما جرى للدكتور مرسي وفريقه على يد القيادة العسكرية المصرية بموقف عسكر
تركيا من أربكان، وقارنوا بين عزل الأول وإجبار الثاني على الاستقالة. إلا أن ما
حدث بعد ذلك كان أكثر أهمية، لأنه بعد خروج أربكان من السلطة، استوعب الدرس بعض
رفاقه، وفى المقدمة منهم عبدالله جول ورجب طيب أردوغان، ومن ثم شكلا حزباً جديداً
باسم "العدالة والتنمية" طورا به أفكارهما ومشروعهما، وخاضا به انتخابات العام 2002
التي فازا فيها بأغلبية كبيرة أوصلتهما إلى السلطة فصار الأول رئيساً للجمهورية
والثاني رئيساً للوزراء، ولا يزال الحزب متمتعاً بشعبيته ومواصلا إنجازاته، إلى
الآن.
من أهم ما فعلته حكومة حزب "العدالة والتنمية" أنها قامت أخيراً بتفكيك قبضة
الجيش على السياسة حتى أخرجته بصورة تدريجية من ساحة الفعل والقرار. ولم تكتف بذلك
وإنما قدمت أخيراً مشروع قانون إلى البرلمان يحصر دور الجيش في صد أي عدوان خارجي
على تركيا. وهو ما يعدّ ضربة قاضية تنهي سبعة عقود من حمايته لجمهورية أتاتورك
وتذرعه بمسؤوليته عن حراسة نظامها السياسي.
من المفارقات أن ذلك حدث في نفس الأسبوع الذي أعلنت فيه قيادة الجيش في مصر
قرارها عزل الدكتور محمد مرسي، قياماً منها بواجبها الوطني وحماية لمطالب الثورة.
وحين وجدتُ أن عسكر تركيا يخرجون من السياسة في حين أن عسكر مصر يدخلون إليها في
ذات الوقت، خطر لي السؤال التالي: هل يرشح ذلك مصر لشغل المقعد الشاغر، وكم سنة
نحتاجها لكي نفك ذلك النحس؟"السفير"
"
No comments:
Post a Comment