رأي القدس
"اشتغل الرئيس السوري بشار الأسد بدأب على تكوين صورة لنفسه باعتباره طبيباً استدعاه قدر البشرية لتولّي شؤون سورية بعد وفاة أبيه للاستفادة من خبرته الأكاديمية، لا ليعالج أمراض بلده فحسب بل أمراض العرب والعالم أيضاً.
استطاب الأسد اللجوء الى مخزونه الطبّي ذاك ليطرح على وسائل الاعلام والقمم العربية والعالمية محاضراته العياديّة مستخدماً مصطلحات من عالم الطبّ والكيمياء ساخراً من زعماء العرب الجاهلين مرة ومن المثقفين الأكثر جهلاً مرة أخرى على علاجاتهم غير النافعة لأوبئة شعوبهم ومشاكلها.
في إحدى خطبه التي ألقاها بعد الثورة السورية شبّه الأسد ‘مؤامرات’ أعداء نظامه بالجراثيم التي ‘تتكاثر كل لحظة’ واقترح وقتها تقوية ‘جهاز المناعة’ في أجساد السوريين لأن الجراثيم يمكن ‘عزلها’ ولا يمكن ابادتها.
بين تلك الخطبة المبكّرة ومجزرة الغوطة الكيمياوية طوّر الأسد أطروحته العلمية تلك وقرّر ان يجرّب ابادة ‘الجراثيم’ من خلال جرعة كبيرة من دواء استخدمه عشرات المرّات ولكن بجرعات مخففة لم تكن كافية، على ما يبدو، لعلاج المريض، او لإقلاق ضمير المجتمع الدولي.
المفاجأة التي زلزلت الأسد أن الولايات المتحدة الامريكية اعتبرت هذه ‘الجرعة الزائدة’ تجاوزاً واضحاً لـ’خطّ أحمر’ لم يعد طبيب العيون قادراً أن يراه بعد أن خفّفت امريكا تعريفها للون الأحمر مرات لا تحصى، ثم قررت امريكا، على حين غرّة، تحريك آلتها الدبلوماسية والعسكرية العالمية الهائلة فاردة عضلاتها الفولاذية للقيام بضربة عسكرية للنظام السوري.
استعدادات النظام للهجوم تمثّلت باعادة موضعة قوات النخبة من حرس جمهوري وفرقة رابعة، وبتنفيذ حملات اعتقال عشوائية ووضع ضحاياها ‘المتطوعين’ (مع وجوه فنية واعلامية للتمويه) في مواقع متوقعة للهجوم الامريكي لتلقّي الضربة بدل قوات النظام، وبنزوح كبير لعائلات كبار الضباط والمسؤولين الى لبنان (في ظاهرة يمكن تسميتها ‘نازحون 5 نجوم’ رفعت معنويات وزير السياحة اللبناني فادي عبود فتحدث عن ‘سياح’ سوريين يدعمون السياحة في لبنان).
بذلك جهز النظام نفسه لينجو بنخبته العسكرية فيما يتحمّل تبعات الضربة ضحاياه المدنيون أنفسهم الذين شكّلت أمريكا جبهة عالمية لنصرتهم!
النظام السوري الذي عاش على مقوّيات ومهدئات الأسلحة الروسية، واستعان بقوات حليفة من لبنان والعراق وايران والبحرين واليمن أدرك مع ذلك أن ‘الضربة’ تلك، ولو محدودة، قد تشلّ قدرات جيشه المتهالك التي لا يعرف كيف يستخدمها إلا ضد شعبه، كما ستعرّي أطروحاته السياسية حول الممانعة و’التصدي لاسرائيل’ لأنه، كالعادة، سيتجنب الرد عليها.
الدرس الذي تعلّمه السوريون خلال خمسين عاماً من سيطرة النظام أنه يتراجع بسرعة أمام أية تهديد جدّي من قوّة خارجية لكنه مستعدّ لتدمير البلد بأكمله اذا تجرأ الشعب على المطالبة بالحرية.
تراجع النظام عام 1998 عندما هددت تركيا سورية بالحرب إذا لم تسلّم عبد الله اوجلان، رئيس حزب العمال الكردستاني، وكان أن سلّم النظام السوري اوجلان.
كما تراجع عندما اغتيل رئيس الوزراء اللبناني الأسبق وفيق الحريري عام 2005 وأدى الموقف الدولي القويّ آنذاك الى انسحاب الجيش السوري من لبنان خلال شهرين بعد 29 سنة طويلة من احتلال البلد ‘الشقيق’.
موافقة النظام السوري على المبادرة الروسية لوضع أسلحته الكيماوية تحت رقابة دولية تدخل في باب هذه المعادلة المأساوية من الخنوع المخزي للضغط العالمي والرفض الاستكباريّ لمطالب الشعب السوري، وهي تأكيد جديد أن لا شيء يمكن أن يوقف النظام إلا وقفة دولية حقيقية تحاسبه على جرائمه.
يتضمن إقرار النظام السوري بوجود ترسانته الكيميائية اعترافاً ضمنياً بجريمته ضد شعبه، وهو يأمل مقابل وعده بتقديم سلاح الجريمة أن ينجو بفعلته، فهل سيسمح العالم بذلك؟
"
No comments:
Post a Comment