Link
هي حكمةٌ، تثبتها الوقائع والأحداث، وتأبى كثير من عقول بعضنا استيعابها. الولايات المتحدة ليست "حليفاً" مبدئياً للعرب، و"حلفها" مع بعضهم هو نتيجة حسابات ومصالح متغيرة، لا قيم وقناعات ثابتة. وبالتالي، أي تغير في الحسابات والمصالح أميركياً يستتبعه تغيير في المقاربات والعلاقات، وكل من تحدّثه نفسه بالخروج عن الحدود المرسومة له سيسمع الجواب الأميركي المزلزل سريعاً. رأينا ذلك سابقاً مع العراق، عندما دعمته الولايات المتحدة في حربه ضد إيران، ثمّ قلبت له ظهر المجنِّ بعد غزوه الكويت. ونراه اليوم واقعاً مع المملكة العربية السعودية، والتي تعيش راهناً وطأة الإدراك أن "الحلف" مع أميركا ليس "حلف مبادئ" ثابتة، بل "حلف مصالح" متغيرة. وهكذا، فعندما اختلفت الحسابات في سورية واليمن، وعندما اختلفت المقاربات نحو إيران، بدأ التوتر يطفو إلى السطح، وتعالى النقد والتشهير بحق المملكة أميركيا.
ثمة مثل أميركي مفاده: جلوسك على الطاولة لا يجعل منك طاعِماً، بل إنك قد تكون على قائمة الطعام. وهو يعني في سياق كلامنا هنا أن جلوس بعض العرب مع الأميركيين على طاولة أية مباحثاتٍ لا يجعل منهم بالضرورة شركاء، كما قد يتوهمون، بل إنهم قد يكونون موضوعا لتلك المحادثات، أو مطلوباً منهم، أميركياً، أدواراً يؤدونها. فلا يمكن لـ"حلف مبادئ" أن ينهض إن لم يكن قائماً على قيم يشترك فيها الأطراف المختلفون. دع عنك أن تكون كل أطراف الحلف قادرةً على الوفاء بمتطلباته والقيام بأعبائه. وفي هذا السياق، نستذكر تصريحات الرئيس، باراك أوباما، التي سجلها تقرير موسع لمجلة "ذا أتلانتيك" الأميركية، في شهر مارس/ آذار الماضي، عندما حذر مَن وصفهم "حلفاءنا الخليجيين" بأن لا يتوقعوا دعما أميركيا مطلقاً في أي صراع مع إيران، على أساس أن هؤلاء "الحلفاء" لا يملكون "القدرة على إطفاء النيران بأنفسهم، كما أنه ليست لديهم القدرة على ربح المعركة بشكل حاسم وحدهم، وهذا سيعني أن علينا الذهاب واستخدام قوتنا العسكرية لحسمها لصالحهم".
مناسبة التقديم السابق هو امتعاض بعض أطياف المعارضة السورية، وبعض الأطراف العربية، من الموقف الأميركي في سورية، والذي أقل ما يوصف به هو أنه متواطئ، وليس متخاذلاً فحسب. يجأر كثير من هؤلاء من الموقف الأميركي المتواطئ مع الوحشية الروسية المُعَضِّدَةِ للوحشيتين، الإيرانية والأسدية وتوابعهما، ويطالبون الولايات المتحدة بموقفٍ أكثر تشدّداً
قد يستشكل على بعضهم فهم الموقف الأميركي في سورية، وقد يقول قائل إنها أصبحت كما جامعة الدول العربية، متخصصة في الإدانة والشجب والإعراب عن الأسف. نعم، الإعراب عن الأسف، هذا ما فعلته إدارة أوباما، قبل أيام، للتعبير عن موقفها من استخدام روسيا قاعدة عسكرية إيرانية، لتنفيذ ضربات جوية في سورية، وزراعة الموت والدمار فيها. ولم تفوت روسيا الفرصة لتذكيرنا بالتواطؤ الأميركي، إذ قال وزير دفاعها، سيرجي شويجو، إن بلاده والولايات المتحدة تقتربان من بدء عمل عسكري مشترك ضد "المتشدّدين" في حلب. طبعا، سيسأل بعضهم هنا عن رد الفعل الأميركي، والجواب ببساطة: لا نفي ولا تأكيد، مما قد يعني أن ثمة محادثات جادة تجري فعلا بين الطرفين، من دون الالتفات إلى الجرائم التي ترتكبها روسيا وحلفاؤها في سورية.
فالمجازر التي ترتكب في سورية، وعلى الرغم من فظاعتها، تدخل في سياق "المصالح غير الأساسية" للولايات المتحدة، التي لا تستلزم تدخلا عسكريا. هذا ما قاله أوباما نفسه في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2013.
بكل وضوح، ومن دون رتوش، لم تخدع أميركا أحداً، ولم تكذب على أحد، فسياستها الخارجية، تاريخيا، تزخر بنماذج التخلي عن "الحلفاء" غير الأساسيين، ممن لا يدخلون في نطاق تعريف "حلف المبادئ". فعلتها في فيتنام وإيران في سبعينيات القرن الماضي، ثم في الفيليبين في الثمانينيات، وصولاً إلى زين العابدين بن علي في تونس، وحسني مبارك في مصر، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وستفعلها اليوم وغداً إن اضطرت. فعندما تصبح كلفة "الحليف" أكبر من الحفاظ عليه، أو عندما يعجز عن أداء دوره، تكون بداية نهايته أميركيّاً. هذا هو المنطق الأميركي الراسخ والثابت، لكن بعضنا يختار التغابي، ليكتشف، بعد ذلك، أنه عريان تحت الغطاء الأميركي. اسألوا جماعة "أوسلو" من الفلسطينيين، واعتبروا من حالهم.
No comments:
Post a Comment