خليل العناني
Link
لا يملك المرء أمام حالة الدمار التي وصلت إليها سورية سوى الوقوف برهة، والتأمل في مآلات الثورة، متنقلاً بين محطاتها وتعرّجاتها وانتكاساتها ومآسيها. وهي الثورة التي أعادت تعريف موازين القوى في المنطقة وخارجها، ليس لصالح السوريين للأسف، وإنما على حساب حريتهم وأرواحهم وديارهم. وهو الأمر الذي تلمحه في الاتفاقات الثلاثة التي تم توقيعها أخيراً (اتفاق وقف إطلاق النار، واتفاق مراقبة خروق الهدنة، واتفاق المفاوضات السياسية أو اتفاق أنقرة كما بات يُسمّي) بين الروس ممثلين عن النظام السوري، والأتراك ممثلين عن الفصائل السورية.
وبمعنى من المعاني، سوف تنتهي الثورة إلى حالةٍ تفاوضية بين طرفين لم يكونا يوماً في حسابات من أطلقوها. فمن كان يتخيّل يوم أن بدأت الثورة أواخر فبراير/شباط 2011، بشعارات الحرية والكرامة التي رسمها أطفال درعا على جدران مدارسهم قبل أن تنطلق رسميا منتصف مارس/ آذار التالي، أن يصبح مصيرها معلّقاً على أبواب الكرملين والقصر الرئاسي في منطقة بشتبيه في أنقرة؟ ومن كان يعتقد أن يقبل السوريون بتركيا التي كانت، عقوداً، جارة غير مرغوبة فيها، إن لم تكن عدوّة، بسبب استيلائها علي لواء الاسكندرون الذي كان تابعاً لولاية حلب ضمن سورية العثمانية في ثلاثينيات القرن الماضي، أن يقبلوا بها ملجأ أخيراً لهم إنسانياً وسياسياً، والمفاوض باسمهم ضد نظام بلدهم؟ ومن كان يتخيّل، من شباب الثورة وحركاتها، أن تكون روسيا التي تبعد عنهم آلاف الأميال هي التي سوف تحدّد مصير ثورتهم ومستقبلهم؟ إنه مكر التاريخ الذي لم يترك شيئاً على حاله.
لا يختلف حال السوريين كثيراً عن حال بلدانٍ كثيرة عاشت تحت وطأة أنظمةٍ عفنةٍ سياسياً وساقطة أخلاقياً، لا تعبأ بالكثير بالتفريط في سيادتها وأرضها وقرارها، من أجل البقاء في السلطة بأي ثمن. لا يهم، هنا، أن يكون المحتل فرنسياً أو بريطانيا أو روسياً، وإنما الأهم هو السلطة، ولو كانت لعائلة أو طائفة، والسيادة ولو كانت ناقصةً ومنتهكة. سوف يضع التاريخ بشار الأسد وعائلته ضمن الإطار الذي وُضعت فيها عائلاتٌ وطوائفُ كان الأجنبي أقرب لها من بني جلده ووطنه، كما كانت الحال مع عائلات وطوائف وجماعات عملت لصالح
جرى التفاوض بين الروس والأتراك حول مصير الثورة، وتوصلا إلى اتفاق هشّ للهدنة، كغيره من الاتفاقات السابقة التي لم يلتزم فيها الأسد ولا بوتين بالتوقف عن ذبح السوريين. وجرى الاتفاق بينهما، بينما العرب غائبون عن المشهد، وكأن سورية لم تعد عربية، بعد أن مزقتها الصراعات السياسية والطائفية. في حين ينظر الإيرانيون والأميركيون بحذرٍ إلى "اتفاق أنقرة" المفترض أن يمهد الأجواء إلى الجولة الأولى من المفاوضات في العاصمة الكازاخية، أستانة، أواخر يناير/كانون الثاني الجاري. في وقتٍ يبدو أن قوى المعارضة استسلمت للأمر الواقع، بعد الخسارة الموجعة في حلب التي سقطت في أيدي النظام قبل أسبوعين. وحسب وثيقة الحل السياسي أو التفاوض، فإن على فصائل المعارضة تشكيل وفد للتفاوض بحلول منتصف يناير الجاري. وهو أمر تبدو فيه شكوك كثيرة في ظل حالة الانقسام التي تبدو عليها المعارضة السورية، والتي كانت سبباً فيما آلت إليه أوضاع الثورة. وهي المعارضة التي تبدو شكوكها أصلاً في جدوى التفاوض، وأن بقية الأطراف سوف تلتزم به، في ظل عدم وجود ضمانات حقيقية، خصوصاً من جانب نظام الأسد لتنفيذ أي قراراتٍ قد يتم التوصل إليها بعد انتهاء المفاوضات. وقطعاً، لن يكون التفاوض في صالح هذه الفصائل، بقدر ما سيكون للطرف الآخر في المعادلة، وهو الأسد، ومن خلفه روسيا وإيران.
ينظر المرء إلى الخلف، ويسأل: إذا كان مآل الثورة السورية قد انتهى، ليصبح مجرد لعبة سياسية على رقعة شطرنج إقليمية ودولية، فهل كانت تستحق كل هذا الثمن والأرواح التي دُفعت لأجلها؟ صحيحٌ أن أي صراع سياسي لابد وأن ينتهي بالتفاوض. ولكن، بشرط أن تكون الأطراف المتفاوضة على قدم المساواة نفسه، أو على الأقل قريبة منها، بحيث لا يطغى طرفٌ على آخر، وهو أمر غير متحقق في الحالة السورية التي تبدو فيها قوى المعارضة على درجة كبيرة من التفكّك واليأس وعدم الانسجام. حتى وإن افترضنا أن اتفاق الحل النهائي سوف يتم تحت سقف بيان جنيف 1، والذي يشترط رحيل بشار الأسد من السلطة، وعدم وجود أي دور مستقبلي له، فإن الأسد، بعد معركة حلب وخسائرها، لن يقبل بهذا الشرط، مهما كان الثمن.
ويظل العائق الرئيسي في كيف يمكن تنفيذ أي اتفاق يتم التوصل إليه، فضلاً عن تحديد إطاره الزمني. وهو أمر قد يبدو الآن ثانوياً، لكنه أحد المطالب الرئيسية لقوى المعارضة، في حين لا تهتم به روسيا أو تركيا، لانشغالهما بملفات أخرى.
سيجري التفاوض، إذا، على ما تبقّى في سورية من أطلال، بعد أن حوّلها الأسد وحلفاؤه الإيرانيون والروس وغيرهم إلى كومةٍ من التراب الذي لو نطق للعن كل من أراق دماء الأبرياء فوقه.
No comments:
Post a Comment