جلبير الأشقر
Link
قبل خمسة عشر عاماً على وجه التحديد، أي في مثل هذا الوقت من عام 2002، أنهيت كتابة مؤلفي الذي صدر بالعربية تحت عنوان «صدام الهمجيات: الإرهاب، الإرهاب المقابل والفوضى العالمية». وكان فحوى التخمين الذي جاء به الكتاب غداة عمليات تنظيم القاعدة في نيويورك وواشنطن أن تلك الجرائم الإرهابية تندرج في سياق جدلية تصادمية بين نزعة القوى العظمى إلى الجنوح نحو الهمجية ونزعة مقابلة إلى همجية مضادة يولّدها ذاك الجنوح بين الذين يعانون منه.
وقد استند التخمين إلى تحليل يمكن تلخيصه على الوجه التالي: إن اقتران النتائج الاجتماعية الكارثية الناجمة عن النيوليبرالية على الصعيد العالمي بالجشع الإمبريالي الذي أفصحت عنه الولايات المتحدة إثر فوزها على الاتحاد السوفييتي في «الحرب الباردة»، إن اقتران تلك الظاهرتين قد خلق تربةً ملائمة للإفراج من جديد عن النزعات الهمجية المطمورة في أعماق كل حضارة والتي تعود وتطفو على السطح في زمن الأزمة. فتنجم عن هذا الوضع جدليةٌ تستقوي من خلالها كل همجية بالهمجية المقابلة، علماً بأن همجية الأقوياء هي المتسبب الرئيسي في توليد وتسعير همجية الضعفاء. والهمجية هنا منافية للحضارة بمعناها العام إذ تقوم الأولى على الكراهية والعنف بينما تقوم الثانية على التآلف والسلام.
والحال أن المشهد العالمي قد أكّد، للأسف الشديد، ذلك التخمين سواء على النطاق العالمي أو على نطاق المنطقة العربية. وقد رأينا في أعظم قوة عالمية، الولايات المتحدة الأمريكية، انزلاقاً متواصلاً نحو اليمين الهمجي بدأ مع بزوغ زمن النيوليبرالية الذي دشّنه الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، واستمر صاعداً في شكل تيار يميني متطرّف أخذ ينمو في أوساط أنصار الحزب الجمهوري، وكانت أبرز ذرواته رئاسة جورد دبليو بوش ومن ثم ظاهرة «حزب الشاي» (تي بارتي) التي حفزها العداء العنصري لأول رئيس أمريكي أسود البشرة، وأخيراً وصول دونالد ترامب إلى السلطة وهو الأكثر تطرّفاً يمينياً بين جميع الرجال الذي تعاقبوا على سدة الرئاسة في تاريخ بلاده.
وقد ترافق صعود أقصى اليمين داخل الولايات المتحدة باشتداد همجية العدوان الإمبريالي الأمريكي في منطقة «الشرق الأوسط الكبير» (وهي التسمية التي أطلقتها إدارة بوش على المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى المغرب) مع ما صاحب العدوانين على أفغانستان والعراق من مظاهر همجية كان أبرزها مشهدياً التعذيب في سجن أبو غريب. والحقيقة أن القتل على يد القوات الأمريكية كان أخطر من ذلك التعذيب، وهو قتل تواصل حتى من قِبَل إدارة أوباما التي استخدمت مركبات القتال الجوّي بدون طيّار (درون، وهي في الواقع مركبات قتلٍ جوّي، وليس قتالاً) بكثافة عالية. والكلّ يدرك كيف أن الاحتلال الأمريكي للعراق وهمجيته فسحا مجالاً رحباً أمام تنظيم القاعدة وهمجيته للانتشار في المناطق ذات الأغلبية العربية السنّية.
هذا ولمّا انفجر بركان الثورة في المنطقة العربية قبل ست سنوات، ما لبث أن أثار فورةً في الهمجية المضادة للثورة والكامنة في النظام العربي القديم. وغدت سوريا الساحة الرئيسة لتلك الفورة، وهي خاضعة منذ عقود لأحد أشدّ الأنظمة العربية إرهاباً وبطشاً، وقد كشّر عن أنيابه كاملة في وجه الانتفاضة الشعبية. فخلقت همجية النظام السوري تربةً صالحة لانتقال تنظيم القاعدة من العراق إلى سوريا، وهي النتيجة التي توخّاها النظام بل ساهم في تيسيرها، وقد رأينا «الدولة الإسلامية في العراق» تضيف «الشام» إلى اسمها وينشقّ عنها الموالون إلى تنظيم القاعدة الأصلي الذي شاءت سخرية التاريخ أن ظهر وكأنه أكثر «اعتدالاً»، بينما كانت المعارضة السورية المسلّحة تغرق في أوحال السلفية الجهادية. فباتت سوريا أرض صدام الهمجيات الإقليمية بامتياز في مأساة فاقت كل ما شهده تاريخ المنطقة العربية الحديث، إن لم يكن تاريخها على الإطلاق.
وبعد، فها أننا نقف على عتبة مرحلة جديدة تنذر بأن تشهد تصعيداً جديداً في جدلية صدام الهمجيات على المستويين العالمي والإقليمي. ها أن رجلاً عنصرياً غارقاً في الرجعية والسلطوية اعتلى كرسي الرئاسة الأمريكية متعاطفاً مع الرئيس الرجعي والسلطوي الذي يشرف على روسيا منذ بداية هذا القرن، والرجلان متفقان على ما يبدو على مؤازرة رؤوس النظام الرجعي والسلطوي والهمجي في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها السفّاح المقيم في دمشق. وكم هو مرعبٌ خطرُ تفاقم الانزلاق الهمجي المضاد في صفوف شعوبنا التي تعاني من كافة هذه الهمجيات، الأمريكية والروسية والإقليمية.
وقد استند التخمين إلى تحليل يمكن تلخيصه على الوجه التالي: إن اقتران النتائج الاجتماعية الكارثية الناجمة عن النيوليبرالية على الصعيد العالمي بالجشع الإمبريالي الذي أفصحت عنه الولايات المتحدة إثر فوزها على الاتحاد السوفييتي في «الحرب الباردة»، إن اقتران تلك الظاهرتين قد خلق تربةً ملائمة للإفراج من جديد عن النزعات الهمجية المطمورة في أعماق كل حضارة والتي تعود وتطفو على السطح في زمن الأزمة. فتنجم عن هذا الوضع جدليةٌ تستقوي من خلالها كل همجية بالهمجية المقابلة، علماً بأن همجية الأقوياء هي المتسبب الرئيسي في توليد وتسعير همجية الضعفاء. والهمجية هنا منافية للحضارة بمعناها العام إذ تقوم الأولى على الكراهية والعنف بينما تقوم الثانية على التآلف والسلام.
والحال أن المشهد العالمي قد أكّد، للأسف الشديد، ذلك التخمين سواء على النطاق العالمي أو على نطاق المنطقة العربية. وقد رأينا في أعظم قوة عالمية، الولايات المتحدة الأمريكية، انزلاقاً متواصلاً نحو اليمين الهمجي بدأ مع بزوغ زمن النيوليبرالية الذي دشّنه الرئيس الأمريكي رونالد ريغن، واستمر صاعداً في شكل تيار يميني متطرّف أخذ ينمو في أوساط أنصار الحزب الجمهوري، وكانت أبرز ذرواته رئاسة جورد دبليو بوش ومن ثم ظاهرة «حزب الشاي» (تي بارتي) التي حفزها العداء العنصري لأول رئيس أمريكي أسود البشرة، وأخيراً وصول دونالد ترامب إلى السلطة وهو الأكثر تطرّفاً يمينياً بين جميع الرجال الذي تعاقبوا على سدة الرئاسة في تاريخ بلاده.
وقد ترافق صعود أقصى اليمين داخل الولايات المتحدة باشتداد همجية العدوان الإمبريالي الأمريكي في منطقة «الشرق الأوسط الكبير» (وهي التسمية التي أطلقتها إدارة بوش على المنطقة الممتدة من أفغانستان إلى المغرب) مع ما صاحب العدوانين على أفغانستان والعراق من مظاهر همجية كان أبرزها مشهدياً التعذيب في سجن أبو غريب. والحقيقة أن القتل على يد القوات الأمريكية كان أخطر من ذلك التعذيب، وهو قتل تواصل حتى من قِبَل إدارة أوباما التي استخدمت مركبات القتال الجوّي بدون طيّار (درون، وهي في الواقع مركبات قتلٍ جوّي، وليس قتالاً) بكثافة عالية. والكلّ يدرك كيف أن الاحتلال الأمريكي للعراق وهمجيته فسحا مجالاً رحباً أمام تنظيم القاعدة وهمجيته للانتشار في المناطق ذات الأغلبية العربية السنّية.
هذا ولمّا انفجر بركان الثورة في المنطقة العربية قبل ست سنوات، ما لبث أن أثار فورةً في الهمجية المضادة للثورة والكامنة في النظام العربي القديم. وغدت سوريا الساحة الرئيسة لتلك الفورة، وهي خاضعة منذ عقود لأحد أشدّ الأنظمة العربية إرهاباً وبطشاً، وقد كشّر عن أنيابه كاملة في وجه الانتفاضة الشعبية. فخلقت همجية النظام السوري تربةً صالحة لانتقال تنظيم القاعدة من العراق إلى سوريا، وهي النتيجة التي توخّاها النظام بل ساهم في تيسيرها، وقد رأينا «الدولة الإسلامية في العراق» تضيف «الشام» إلى اسمها وينشقّ عنها الموالون إلى تنظيم القاعدة الأصلي الذي شاءت سخرية التاريخ أن ظهر وكأنه أكثر «اعتدالاً»، بينما كانت المعارضة السورية المسلّحة تغرق في أوحال السلفية الجهادية. فباتت سوريا أرض صدام الهمجيات الإقليمية بامتياز في مأساة فاقت كل ما شهده تاريخ المنطقة العربية الحديث، إن لم يكن تاريخها على الإطلاق.
وبعد، فها أننا نقف على عتبة مرحلة جديدة تنذر بأن تشهد تصعيداً جديداً في جدلية صدام الهمجيات على المستويين العالمي والإقليمي. ها أن رجلاً عنصرياً غارقاً في الرجعية والسلطوية اعتلى كرسي الرئاسة الأمريكية متعاطفاً مع الرئيس الرجعي والسلطوي الذي يشرف على روسيا منذ بداية هذا القرن، والرجلان متفقان على ما يبدو على مؤازرة رؤوس النظام الرجعي والسلطوي والهمجي في الشرق الأوسط، وفي مقدمتها السفّاح المقيم في دمشق. وكم هو مرعبٌ خطرُ تفاقم الانزلاق الهمجي المضاد في صفوف شعوبنا التي تعاني من كافة هذه الهمجيات، الأمريكية والروسية والإقليمية.
ولتفادي الكارثة الجديدة المحدقة بنا والتي قد تفوق ما شهدناه حتى الآن من كوارث، لا بدّ من انبعاث جديد للموجة التقدّمية والحضارية العارمة التي صعدت في المنطقة العربية سنة 2011 والتي همّشت في حينها الظاهرة الجهادية قبل أن تعود هذه الأخيرة إلى التفاقم بشكل مضاعف بسبب إجهاض الأماني الثورية وقيام النظام القديم بإغراق المدّ الثوري بالدماء في معظم ساحاته. وأملنا كبير بأن يعوّض عن تضافر الهمجيات الرجعية الحاكمة عالمياً وإقليمياً تعاضدُ الحركات الشعبية التقدّمية. فلا شكّ أن الحركة الشعبية الرائعة التي هبّت داخل الولايات المتحدة في وجه دونالد ترامب وما يمثّله والتي أبدت تعاطفاً مؤثراً مع المسلمين ضحايا التمييز العنصري، لا شكّ أن الحركة الشعبية تلك خيرُ ترياق مضاد للسمّ الذي يبثّه ترامب ومن لفّ لفّه. فإن مستقبل العالم بأسره ومستقبلنا بوجه خاص مرهونان إلى حد بعيد بقدرة الحركة الشعبية الأمريكية على هزم ترامب وتدشين مرحلة تقدّمية جديدة في التاريخ العالمي بعد الحضيض الرجعي الذي بلغناه.
٭ كاتب وأكاديمي من لبنان
No comments:
Post a Comment