Tuesday, August 22, 2017

أزمة "كلبيّة"

A GOOD ARTICLE

باسل طلوزي

Link

"يحق للكلب ما لا يحق لغيره".. شعارٌ غير قابل للطعن والمراجعة، صاغه الرئيس وأمر بطباعته على لافتاتٍ مذهبةٍ بأحجام كبيرة، وتعليقه على سائر جدران القصر وأسواره ومكاتبه، كما أوعز بتعميمه ورقيًّا على بطانة القصر وموظفيه كافة.

والحال أن ولع الرئيس بالكلاب لم يكن وليد مصادفة، بل جاء عبر متوالياتٍ غفيرة من المعايشة الطويلة، حتى بلغ هذه المرتبة التي لم تعد تضاهيها مرتبة أنجاله، ومنهم نائبه بالطبع، فقد رأى في الكلاب مشروع "شعبٍ مستقبلي"، يكفيه عناء توجيه الأوامر، ويوفر عليه ميزانياتٍ ضخمة تنفق على الخطط الخاصة بأمنه الفردي.

كان يمنّي النفس بأن يبلغ شعبه المرحلة "الكلبية" في الولاء لشخصه فقط، من دون غيره من شعارات "الوطن" و"القومية" و"الوحدة"، وما يماثلها من تلك "الهلوسات" التي ألف سماعها وقراءتها في وسائل الإعلام؛ إذ كان يتبنّى استراتيجية خاصة بالانتماء، قوامها أن الولاء للرئيس هو الولاء الوطني الحقيقي، وما عداه "هرطقات"، على قاعدة أن الرئيس يختصر في شخصه الكون كله، وأن من لا يمتلك هذا الولاء، فالأجدر به أن يكون خارج المجرّة الشمسية برمتها.

ولتحقيق هذه الغاية، رأى الرئيس أن الكلاب تصلح أن تشكل أنموذجًا حيًّا للشعب، ينبغي لهم أن يتعلموا منها دروس الولاء والطاعة العمياء، مقابل الفُتات الذي لا يتعدّى الحصول على لقمة الحياة فقط، وكان أكثر ما يمقته الرئيس مقولة "تعليم الكلاب"، فهو كان يرى ضرورة قلب هذه المقولة إلى "التعلّم من الكلاب"، والمقصود أن يكون الشعب تلاميذ عند الأساتذة الكلاب، ليتعلموا منها الطاعة العمياء.

ولكي يضع استراتيجيته الجديدة موضع التطبيق، أوعز بإنشاء أكاديمياتٍ عامة موازية للمدارس، لتنمية الحس "الكلبيّ" لدى النشء الجديد، مثلما أمر بإنشاء مراكز للكبار لمحو الأمية "الكلبية". أما الأهم من ذلك فيتمثل في أن الرئيس رأى أن يعمّم تجربته على رهط أصدقائه من الرؤساء الآخرين، فبعث نسخًا من استراتيجيته إلى عشرين منهم.

على أن الرئيس كان منصفًا بعض الشيء في نظرته التمييزية بين كلاب القصر وكلاب الشوارع، فهو كان يعتبر الأخيرة جزءًا من الشعب "المتخلف" نفسه، لأنها تربّت في كنفهم، وتطبعت بطباعهم، فغدا مشكوكًا بولائها وانتمائها، ولم يستوقفه نبأ الحملة التي جرّدتها البلديات للقضاء على هذه الكلاب، عبر موظفٍ خبيرٍ في وسعه تحديد موضع الكلب واصطياده عن بعد، من صوت نباحه فقط، وكان يفتخر هذا الموظف بأنه قتل 19 كلبًا حتى الآن، ولم يبقَ أمامه سوى كلب واحد لتنظيف البلد كلها من آفة الكلاب الضالة. 

عمومًا، يمكن التأكيد أن خطة الرئيس كانت موشكةً على تحقيق نجاح باهر، لولا ذلك الحدث المباغت الذي فاجأ الجميع، بمن فيهم الرئيس نفسه. ففي صبيحة أحد الأيام، استفاق الزعيم من نومه، وهو ينبح على نحو متواصل من دون توقف، فهرع جميع من في القصر إليه، وهالهم مشهد الرئيس النابح أمامهم.

حاول الرئيس بشتى الطرق أن يسيطر على صوته وكلامه ومخارج حروفه، من دون جدوى، فلم يكن يصدر منه غير نباح متواصل. وحين يئس تمامًا، أومأ إلى استدعاء طبيبه الخاص الذي هرع إليه، وراح يجري فحوصاتٍ مكثفة للوقوف على المعضلة، إلى أن قرّر الطبيب أخيرًا أن الرئيس مصابٌ بأزمة "كلبيّة"، نتيجة ولعه بالكلاب، ولا شفاء يُرجى من هذا المرض.

حين قرأ الرئيس تقرير طبيبه الخاص، جنّ جنونه وزاد نباحه، وراح يجري كالملدوغ في باحات القصر، بل خرج راكضًا من القصر من دون أن يشعر، وصوت نباحه يملأ الشوارع، ولم تمض دقائق حتى تلقى رشقة رصاص أردته مضرجًا بنباحه.

على الطرف الآخر، كان ثمّة موظف بيده بندقية يتقافز فرحًا، وهو يصرخ: "قتلت الكلب رقم 20".

No comments: