رأي القدس
قبل يوم واحد من الذكرى الرابعة لقصف قواته لغوطة دمشق بالسلاح الكيميائي ألقى الرئيس السوري بشار الأسد خطابا آخر من خطاباته التي تثير عادة الدهشة لامتلائها بأفكار غريبة لديكتاتور يقف على قمّة كبرى من المجازر والمآسي الهائلة فلا يجد غير بضاعته الكاسدة من التعالم والتفاصح والغطرسة التي لا حدود لها.
لم يستذكر الأسد طبعاً أحداً من قتلى هجومه الوحشيّ قبل أربع سنوات الذي قتل مئات الأطفال في ليلة واحدة، ولكنّه أشار مع ذلك إلى أن البلد خسر خيرة شبابه وبنيته التحتيّة لكن، سيادة الرئيس المحترم، ربح «مجتمعا أكثر صحة وتجانساً».
لم يستذكر الأسد طبعاً أحداً من قتلى هجومه الوحشيّ قبل أربع سنوات الذي قتل مئات الأطفال في ليلة واحدة، ولكنّه أشار مع ذلك إلى أن البلد خسر خيرة شبابه وبنيته التحتيّة لكن، سيادة الرئيس المحترم، ربح «مجتمعا أكثر صحة وتجانساً».
والحقيقة التي يجب أن تقال إن صلافة الأسد المرعبة هذه ما كان لها أن تحصل لولا أنه خرج من مجزرة الغوطة تلك من دون عقاب بعد أن تراجع الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما عن «الخط الأحمر» الشهير الذي رفعه بوجه الأسد، وكانت تلك، عمليّاً، بداية مشوار طويل لتفكيك مفاعيل الثورة السورية وإيصالها إلى النهاية المحزنة التي آلت إليها.
كان ذلك قراراً دوليّاً شاملاً ومحكماً بإبقاء بشّار الأسد في السلطة وتدمير إرادة السوريين بالقوة والخبث والتلاعب لتمكين «السيناريو» الذي رسمه الأسد منذ بداية الثورة: أنا أو المتطرّفون الجهاديون.
كان مستحيلا ألا تتخلق هذه المعادلة من رحم العبث الفظيع الناتج من عدم قدرة المعارضة السورية المدنية، وحدها، ومن دون دعم دوليّ حقيقي، على وقف مجازر الأسد وحلفائه التي كان قصف الغوطة بالسلاح الكيميائي أحد أركانها، ما أدّى، كما نعلم، إلى صعود «جبهة النصرة» وبعدها ـ على خلفية المستنقع العراقي المديد ـ تنظيم «الدولة الإسلامية»، اللذين تكفّلا، هما أيضاً، بإنهاء ما تبقى من طابع مدنيّ ديمقراطي ووطنيّ للثورة السورية.
من الصعب، مع ذلك، أن تجادل طاغية فريداً مثل الأسد في فكرته هذه عن «المجتمع المتجانس»، من دون ربطها مع فكرة «الحل النهائي» الذي ابتدعه النازيون للخلاص من اليهود، والذي استتبع أيضاً الخلاص من «أجناس أدنى» أخرى كالمسلمين والغجر، ومن كل الأحزاب السياسية المعارضة، وهكذا قاد الأسد، حرب إبادة ضد السوريين غير المتجانسين، ما أدى لمقتل قرابة نصف مليون، واعتقال وإخفاء مليون ونصف المليون، وتهجير 15 مليون سوري، ليكسب «مجتمعاً صحيا متجانساً».
ما يقوله الأسد، أيضاً، أن المجتمع السوريّ كان غير متجانس قبل شنّه حربه الكارثية تلك، والسؤال الذي يخطر في البال هو ماذا كان يمكن أن يفعل أكثر نظام حكم لقرابة خمسين عاماً بحزب شمولي مطلق، وعدد هائل من أجهزة المخابرات وتوابعها التي يسيطر عليها من اتحادات عمال وفلاحين وشبيبة وصيادلة وأطباء ومهندسين وكتاب، كي يتمكن من تأسيس «مجتمع متجانس»؟
بعد الملايين الذين دمّرت مدنهم وهجّروا ولوحقوا واعتقلوا واختفوا وماتوا يحقّ فعلاً للرئيس السوري أن يتحدّث عن «مجتمع متجانس» و«صحي»، وهذا ربح كبير، لكن الربح الأكبر، هو أن الأسد ما زال واقفاً يخطب في الجمهور، وأن عرشه المضمخ بالدماء والمبني على الجثث محميّ بقوات صحية ومتجانسة من الجنود الروس والإيرانيين.
No comments:
Post a Comment