عزمي بشارة
لا علاقة لهذه المعركة بتحرير أسيرين. هؤلاء قضية جانبية بالنسبة لإسرائيل، وربما تقبل بصفقة تبادل حين يحين الوقت. للعدوان الحالي هدف وأجندة سياسية داخلية لبنانية وإقليمية. لا تلعب المقاومة دور الضحية، ولم تطلب تعاطفا دوليا مع الضحية، بل طلبت تضامنا نضاليا من قبل الأحرار. هذه قواعد لعبة أخرى، نسيها العرب، ولا أدري إذا كانت قد سمعت بها أصلا تلك الأنظمة التي لم تنحدر من مثل هذه اللغة. إنها أخيرا لغة حركات التحرر والمقاومة التي تجبي ثمن الاستعمار من المستعمر. والمقاومة تراهن على أن يدفع الخصم ثمنا لا يستطيع ولا يرغب مجتمعه بدفعه، وهي تحاول أن تقيده بحيث يستخدم فقط جزءاً من قوته. هكذا تحاول المقاومة أن تحيّد التفوق العسكري. لم تغامر المقاومة، فلم يكن لها اختيار التوقيت. إسرائيل هي التي اختارت هذا التوقيت من أجل فتح معركة شاملة ضد المقاومة. ومن ضمن عوامل اختيار إسرائيل لهذا التوقيت معرفتها برد فعل بعض العرب. السياق هو إذاً عكس ما يقولون تماما. وموقفهم ذاته الذي يتهم المقاومة بالمغامرة هو من عوامل اختيار التوقيت. الى هنا التحليل العقلي. ومن هذه النقطة يحتم الموقف كلاما آخر، بنبرة أخرى. ولذلك نقول: عمليا، يتهم هؤلاء المقاومة قائلين: <لماذا اخترتم هذا التوقيت، ألم تأخذوا بعين الاعتبار أننا أنذال؟ وإذا كنتم تعرفون أننا أنذال فما هي حجتكم للقيام بعمليات بطولية في هذا الوقت بالذات؟>. لا أستطيع أن أنسى كاركاتيرا إسرائيليا عنصريا حقيرا رأيته على ملصقات على جدران حيفا في طفولتي يصور العربي كمن يطعن سكينا في الظهر... أما الكاركاتير العربي الواقعي الذي رأيته في خريف هذا العمر فيقلد الرسم الإسرائيلي عن العرب الممسك بالخنجر نفسه، مع الفرق أن السكين إسرائيلي والظهر عربي. سجّل!! سجّل أنه بدلا من أن تفك لغة المقاومة لسان بعض الأنظمة أمام إسرائيل وأميركا، وبدلا من أن تتغطى على الأقل بهذه الفرصة التي لاحت كي تحتج على الصلف والاستهتار الإسرائيليين بها، حررت أيديها لتطعن المقاومة في ظهرها. لا يفترض أن ينسى التاريخ هذا الموقف. إذ إن الشعوب لن تنساه. حاول أن تكون أمينا لذاكرة الشعوب، فهذه لن تُسقط من دفتر ملاحظاتها المقارنة بين الشعر المصبوغ والمشاعر المصبوغة وبين المقاومة المستحكمة في وجه البوارج في مدن قطعت بينها الطرق. لن تدعه الذاكرة يمر عن غزة وبيروت وصور وصيدا مرور اللئام قبل أن يقطع لها عهدا، تريد الذاكرة التي ما زالت حية ترزق عهدا منه ألا يمحو من قيده الانتقائي الفرق بين شيب متصابين يصبغون شعورهم وأطفال شابت شعورهم لمرأى أشلاء إخوتهم. سجل!! احفر في صخرك صرح هذه الألوان!! ولا تخدعنا فترسم على رمال الصحاري!! طوبى للفقراء والمساكين لأنهم سوف يرثون السماء. طوبى للمقاومين لأنهم سوف يرثون الأرض. أما الزبد فيذهب جفاء، وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. صدق الله العظيم.
No comments:
Post a Comment