كونترا فلسطينية بتمويل أمريكي
بقلم : عبد الباري عطوان
عندما اندلعت الاشتباكات الدموية في قطاع غزة، التي أودت بحياة ثلاثين شخصا علي الأقل من خيرة أبناء القضية الواحدة، حاولنا أن نكون متوازنين، وان نضع اللوم علي الجانبين، ولكن عندما أعلنت الإدارة الأمريكية يوم أمس أنها ستقدم ستة وثمانين مليون دولار لتدريب وتسليح الحرس الرئاسي، وتدرس في الوقت نفسه توسيع تقديم المساعدة لتشمل عناصر قوات الأمن الوطني التابعة للرئيس محمود عباس وبعض قادته الأمنيين، فإننا نجد من الصعب علينا أن نلتزم الحياد ونمسك العصا من الوسط، لان هذه الخطوة الأمريكية لا يمكن إلا أن تكون مشروع فتنة، وصب المزيد من الزيت علي نار الحرب الأهلية، أو جمرها الذي ما زال متقدا تحت رماد الاتفاق الأخير للهدنة، الذي يصارع من اجل الثبات.
لا يستطيع احد أن يقنعنا، مهما تبحر في علم البلاغة والبيان، بأن الولايات المتحدة تريد تمويل قوات الرئاسة، والأمن الوطني الفلسطيني، وتسليحها، من اجل التصدي للقوات الإسرائيلية، وتوغلاتها المستمرة في الأراضي الفلسطينية المحتلة واغتيالاتها التي لا تفرق بين كتائب القسام وشهداء الاقصي. ولا يمكن لأحد أن يحاججنا أيضا، بان الحكومة الإسرائيلية ستسمح بمرور الأسلحة لهذه القوات، من مصر والأردن، إذا كان لديها ادني شك، في أن هذه الأسلحة ستستخدم ضدها وضد جنودها ومستوطنيها.
نحن الآن، ونقولها بكل أسف وحزن، أمام كونترا فلسطينية جديدة، تدعمها الولايات المتحدة من اجل تصفية المقاومة الفلسطينية وحركاتها، وكل من يفكر بمعارضة الحلول الأمريكية المفروضة، وهي حلول إسرائيلية بالأساس. فمثلما تصدت فرق الكونترا لرجال المقاومة في امريكا الجنوبية واستنزفت الأنظمة الوطنية فيها ستفعل هذه القوات الفلسطينية الشيء نفسه وربما أكثر، أو هذا ما هو مخطط لها أن تفعل. وعلينا ان نتذكر أن نغروبونتي الذي عين قبل شهر نائبا للسيدة رايس هو الأب الشرعي لفكرة الكونترا هذه.
المصيبة ان الكونترا الفلسطينية الجديدة تتطوع بالقيام بمثل هذا الدور الدموي القذر، دون ان يكون هناك اي حل علي الطاولة، يستند الي قرارات الشرعية الدولية، ويحقق الحد الأدني من المطالب الفلسطينية في حق تقرير المصير، والعودة والدولة المستقلة.
ومن المفارقة ان هذا الإعلان الامريكي يتزامن مع اتخاذ حكومة ايهود اولمرت، رئيس الوزراء الاسرائيلي، قرارا بتغيير مسار الجدار العنصري الحالي بحيث يضم مستوطنتين يهوديتين جديدتين في الضفة الغربية، والتصديق علي قرار آخر باقامة مستوطنة في غور الاردن لاستيعاب المستوطنين الذين تم اجلاؤهم من قطاع غزة في الصيف قبل الماضي وبناء كنيس يهودي في باحة المسجد الأقصي.
لا نعرف ما هو الغرض من انشاء حرس رئاسي فلسطيني يزيد تعداده عن عشرة آلاف عنصر، ونحن ما زلنا تحت الاحتلال، ولا يستطيع الرئيس الفلسطيني مغادرة قصره الا بإذن شاويش اسرائيلي. ولا يستطيع رئيس وزراء فلسطين المنتخب الاجتماع مع وزرائه في الضفة الا عبر الهاتف وبتنصت اسرائيلي.
نفهم ان يؤسس رئيس دولة اقليمية عظمي مثل الراحل صدام حسين حرسا جمهوريا ضخما، او ان يفعل الشيء نفسه رئيس روسيا العظمي او حتي رئيس مصر الذي يتنقل بين عدة قصور واستراحات ورثها عن العهد الملكي، ولكن ان يقيم رئيس دولة وهمية لا تزيد مساحتها عن بضعة عشرات الآلاف من الاميال خاضعة للاحتلال وتأتمر بأمره، حرسا رئاسيا، فهذا ما لا يخطر علي بال احد، ولكن كل شيء ممكن في هذا الزمن العباسي السعيد.
هناك مشروع سري يتم طبخه علي نار هادئة من وراء ظهر الشعب الفلسطيني، فتمويل هذه القوات وتسليحها من قبل الولايات المتحدة، وبمباركة اسرائيلية هما العمود الفقري له، وهو مشروع حرب اهلية، يبشر بحمامات دم فلسطينية ـ فلسطينية من خلال استهداف حركات المقاومة الفلسطينية، وكل ما أشيع عن حوارات من اجل تشكيل حكومة وحدة وطنية، والتوصل إلي وفاق بين رأسي السلطة، هو مجرد مناورة لكسب الوقت، واستكمال الاستعدادات للمنازلة الدموية الكبري التي باتت وشيكة جدا.
الدكتور صائب عريقات المستشار السياسي للرئيس عباس قال في تصريحات صحافية تبريرا لهذه الخطوة، بأن الاموال الامريكية ستذهب الي تمويل اجهزة ومعدات لمراقبة المعابر. فإذا كانت الادارة الامريكية حريصة فعلا علي هذه المعابر، فلماذا لا تبادر الي فتحها اولا، وخاصة معبر رفح المغلق منذ ستة اشهر، الا في حالات نادرة. حيث يحشر اكثر من مليون ونصف المليون فلسطيني في قفص كبير اسمه قطاع غزة. فما دخل الأجهزة بمرور المرضي والحجاج والمعتمرين؟
الشعب الفلسطيني يتضور جوعا، والأوبئة تتفشي، والمستشفيات خالية من الأدوية الاساسية بسبب الحصار المالي الامريكي، وعشرات الآلاف من الموظفين، ومعظمهم من حزب الرئيس، لا يجدون رغيف الخبز لاطفالهم، ومع ذلك تستثني الادارة الامريكية قوات الرئاسة من حصارها وترسل عشرات الملايين من الدولارات لاعطائها الاسلحة والذخائر التي ستستخدمها في الاشهر المقبلة لتصفية حركات فلسطينية تتمسك بالثوابت التي انطلقت من اجل تحقيقها الثورة الفلسطينية بزعامة حركة فتح .
ما زال من الصعب معرفة ما اذا كان الرئيس محمود عباس قد تشاور مع اللجنة المركزية، او الكوادر الوطنية الشابة لحركته وكتائب شهداء الاقصي بالذات قبل الموافقة علي الانخراط في هذا المشروع الامريكي الخطير ام لا، ولكن ما نستطيع التكهن به، انه لم يفعل ذلك مطلقا، ولم يلجأ الي اي مرجعيات فلسطينية سواء داخل تنظيمه او خارجه، لان كوادر فتح كما نعرفها هي في قمة الوطنية والحرص علي الثوابت ولا يمكن ان تقبل بالانخراط في حرب تصفيات ضد اناس يرفعون راية المقاومة، ويتطلعون للشهادة. فالمؤكد ان الرئيس عباس بات اسيرا لبعض الشخصيات التي تلتف حوله، وترافقه كظله في حله وترحاله، هذه الايام، وتزين له محاسن القبول بالاملاءات والمخططات الامريكية.
النوايا تتجه الآن الي حل قوات الامن الفلسطينية، او غربلتها، كنتيجة للاتصالات التي اجراها خبراء امريكيون مع قادة الاجهزة الأمنية الفلسطينية. والغربلة تعني ابعاد او تجميد كل عنصر ما زال يتمسك بحق العودة، وقيام دولة فلسطينية عاصمتها القدس، ويتعاطف مع المقاومة، اي اننا امام خطوة مماثلة بحل الجيش العراقي، ولن نفاجأ اذا ما جاءت النتائج متطابقة.
الشعب الفلسطيني يقف الآن امام مجزرتين ، الاولي بشرية كنتيجة لحرب التصفيات التي من المتوقع ان تنفذها الكونترا الجديدة، والثانية سياسية ، ستترتب مباشرة علي المجزرة الاولي، وسيكون عنوانها فرض تسوية منقوصة، ومعيبة، علي الشعب الفلسطيني وفق المقاييس الامريكية والاسرائيلية.
الادارة الامريكية تريد تنظيف المنطقة العربية من حركتين اساسيتين للمقاومة، هما حماس و حزب الله ، قبل الانطلاق نحو الحرب الكبري ضد ايران، بغطاء عربي من الدول المعتدلة، ومشاركة اسرائيلية كاملة.
فليس من قبيل الصدفة ان تتحدث السيدة كوندوليزا رايس عن دولة فلسطينية مؤقتة قبل اجتماعها الثاني مع وزراء الدول العربية المعتدلة في الكويت. فالمؤقت سيصبح دائما، وسيظل مرهونا بمدي الرضوخ للاملاءات الامريكية والاسرائيلية.
الرئيس عباس يقدم علي مقامرة جديدة، اخطر بكثير من مقامرة اوسلو ، قد تكون باهظة التكاليف بالنسبة الي الشعب الفلسطيني، فقد عقد العزم مثلما يتراءي لنا، ان يكون جزءا اصيلا في تحالف المعتدلين او حلف بغداد الجديد، اعتقادا منه ان الرئيس عرفات اخطأ عندما وقف ضد تحالف مماثل ايام حرب الخليج الاولي عام 1991، وضم الدول نفسها عدا الأردن، وبما سمي في حينه دول اعلان دمشق .
الرئيس عرفات لم يخطئ عندما وقف في خندق شعبه في مواجهة الخندق الامريكي المقابل، لانه كان يدرك بحدسه الوطني ان بوصلته الوطنية هي الاكثر دقة ومصداقية. فقد حققت امريكا غرضها من اخراج القوات العراقية من الكويت، وتدمير العراق، ونزع اسلحته، ولم تقدم للعرب، وحلفائها علي وجه الخصوص غير حرب اهلية دموية في عراق مفتت ممزق، وخلل اساسي في موازين القوي لمصلحة اسرائيل في الغرب وايران في الشرق.
كان اشرف للسيد عباس ان يتهم بأنه رئيس ضعيف، علي ان يدخل التاريخ كرئيس اشعل فتيل الحرب الاهلية الفلسطينية ووضع اوراقه في السلة الامريكية مقابل حلول جزئية هزيلة، هذا اذا حصل علي هذه المكافأة
No comments:
Post a Comment