د. عادل سمارة
رام الله المحتلة
" نُشر قبل بضع سنوات إعلان في الصحافة المحلية للمناطق المحتلة. هو إعلان مركًّب، موضوعه ضد المقاومة، وكاتبوه وموقعوه مثقفون "أو هكذا يزعمون ويُزعم" محليون، ودافعوا تكاليفه الأوروبيين، أو المركز الرأسمالي الأوروبي المتجدد "الإتحاد الأوروبي"، والمستفيد منه الإحتلال الصهيوني وسيدته أم البيت الأبيض والفعال السوداء.
ما ومن الذي جمع هؤلاء معاً، الله أعلم، وتعلم كذلك المصالح الفردية والفئوية والتبعية الثقافية، بمعنى أن هناك مثقفون "معظمهم من بلادنا" عبيداً عند مثقفين معظمهم من غير جلدتنا. ولكي لا نظلم الذكورية التي نحب أن نفعل بها، فإنهم مثقفون ومثقفات!
أجمع آباء هذا البيان على تسميته "بيان أل 55" وهو ما حمَّلته كجزء من كتابي عن المثقفين. "مثقفون في خدمة الآخر: بيان أل 55 نموجاً". وهو الكتاب الذي اثار حفيظة الكثيرين الذين اعتبروا هذا الأسلوب في الكتابة "لا يُراعي إلإًّ ولا ذمة" بينما قال ألطفهم: "أنت لم تترك لك أحداً يحبُّك". هذا وكأن ما يبغيه المرء في هذه البلاد هو تجنيد محبين أو عُشاق من النخبة ذات الرائحة الكريهة! وهذه حالة فصل عشوائي وتعسفي بين الوعي والقضية، باعتبار الوعي بالقضية والطبقة والأمة هو حبها.
تذكرت هذه الواقعة حيث وجدت بعض النور في مكتبتي في اللحظات التي كان قطاع غزة يموت في الظلام وحر الصيف اللاهب الذي ليس بمعدلات الطبيعة وحدها، بل اساساً من الإنبعاث الحراري من البلدان الصناعية الأوروبية أولاً وأميركا لاحقاً. فهؤلاء لم يكتفوا وخاصة الإتحاد الأوروبي أن أقاموا لنا جهنم "الصهيونية" في فلسطين، وأقاموا للعالم جهنم راس المال وجشع التراكم، فها هم يتلفون بقطع الكهرباء عن قطاع غزة، يتلفون حليب الأطفال والمواد الغذائية وعلاجات المرضى، ويغلقون كتب الطلبة.
يقوم اليوم الإتحاد الأوروبي بجريمة أفظع مما ارتكبه حتى الإحتلال، الذي كان يترنح طرباً حيث تخريب قطاع غزة لصالحه وليس على يده. وتترأس الإتحاد الأوروبي اليوم حكومة السيدة ميركل، التي يبدو وكأنها تكفِّر عن دور ما لأجدادها المباشرين بالمحرقة، فتقوم بحرقنا بخوراً في معبد محرقة قامت بها النازية.
كي لا نخدع ابنائنا واصدقائنا، فإن الغرب الراسمالي الذي لولاه لما كان في فلسطين سوى "اليهود الوطنية"، يُقيم موقفه من الصراع العربي الصهيوني على العبارة التالية:
"خُلق الكيان الصهيوني في فلسطين ليبقى، وطُرد الفلسطينيون من بلادهم ليُوطَّنوا خارجها وبعيداً عنها". ولأن الفلسطينيين يقاومون ما آتتهم القوة، فإن هذا الغرب كأنما طرح شعاراً آخر مفاده: " لا مقاومة في حقبة العولمة".
ومن هنا، فإن تخرصات هذا الغرب الراسمالي عن حقوق الإنسان، والديمقراطية، والحريات، والتعددية، والمجتمع المدني، ...إنما مقصود بها لهم كغرب وحسب. أما بقية العالم، فهم "أغيار- غوييم" وليس شرطاً أن يقولوها، فهم يؤكدونها.
يعرف المثقفون في خدمة الآخر كل هذا، ويرون بالطبع محرقة غزة، ويمتدحون ذلك، ويذهبون طبعاً إلى مؤسسات الأنجزة التي توظفهم، ويتقاطرون في طوابير ذليلة إلى المراكز الثقافية البريطانية والفرنسية والألمانية، والمؤسسات المشابهة للحكومات "غير الحكومية"، أقصد النرويج والسويد والدنمارك باعتبار هذه من "بُغاث" الطير الراسمالي الغربي التي تأتي في منزلة وسطى، اي أدنى من الحكومات الحكومية الإمبريالية ذات التاريخ والحاضر "السافل والدموي" في بلادنا والعالم، وأعلى من مجرد منظمات غير حكومية أي الأنجزة بما هي قواعد للآخر.
هذه حالة هائلة من المفارقة بنظر الغربيين القتلة على الأقل: فقد لا يستطيعون فهم كيف يمكن لمثقف محلي أن يتغزل في حرق أطفال غزة، وأين ؟ أمام من يفعل ذلك؟ الا يستدعي هذا قراءة معمقة في كره الذات؟ وهل يمكن لإنسان أن يكره شعبه إلى هذا الحد؟ وفي التحليل الأخير، هل يستحق هذا الكاره الكريه أن نقلق على حبه لنا!
ولكن، إذا كان هؤلاء المثقفين أحقر من أن يثيروا سخطنا عليهم، فإن الحري بنا أن نقرأ الغرب الرأسمالي والعنصري والمركزاني بحذر ونقد. يجب ان نقرأه جيداًً وعميقاً، لا أن نعمي أنفسنا عن قرائته باصولية وسلفية، يجب أن ننقده بعمق وعنف، وذلك على الأقل كي نحترم أنفسنا.
محرقة غزة، هي اللغم الخطير الثاني، وقد تكون هناك ألغاماً لم نعرفها بعد. كان اللغم الأول في أعقاب أوسلو حين قالت أوروبا لفريق أوسلو من الفلسطينيين، اقلُّوا من التشغيل في الخط الأخضر، ووسعوا الجهاز البيروقراطي للحكم الذاتي ونحن "نتكفل" بالرواتب. وحينما لم ينتخب الفلسطيني على هواهم قبل عام ونصف، قطعوا الرواتب، وكان ما كان. ونفس الإتحاد الأوروبي، الذي هو متحد بمصالحه ومتحد في خدمة الصهيونية ومتحد ضد شعبنا، هو الذي تعهد بدفع كلفة إنارة قطاع غزة، ولذا، قام بقطع النور عن الناس كي يثوروا على حماس. نفس النهج الصهيوني ونهج كل استعمار في التاريخ. أما السؤال المعلق: كم مظاهرة حصلت في أوروبا "المجتمع المدني" احتجاجاً على هذه المحرقة!!!"
No comments:
Post a Comment