بيروت وكلام الحرية!
الياس خوري
"لم تكن الكلمات فارغة من معانيها مثلما هي اليوم. بيروت، وسط ربيع العرب الدموي، تتهاوى كمدينة وكمشروع ثقافي. كلمة حرية التي كانت محور لقاءات معرض الكتاب الفرنكوفوني السنوي في 'البيال'، جاءت ناشفة وبلا معنى.
شيء يثير السخرية والقرف في آن معاً. على بعد امتار قليلة من قاعة 'البيال'، قامت بلدية ضاحية برج حمود بما يشبه التطهير العرقي للعمال الأكراد المقيمين فيها. بؤس العمالة الأجنبية امتزج بالعنصرية، كي نشهد وصول الوقاحة الى ذروتها.
وفي شوارع المدينة وازقتها، تجري عمليات خطف لمواطنين سوريين، وتقوم اجهزة حزبية بالطلب من السوريين تعبئة استمارات، كي يكونوا تحت القبضة الأمنية. واخيرا لا آخرا وصلت الأمور الى حد اعتقال معارضين سوريين في مطار بيروت.
وعلى بعد كيلومترات قليلة تدور المجزرة الأكثر وحشية في تاريخ سورية. ومع ذلك تصمت المدينة، وتتدثّر بالخوف. والخوف في الحقيقة ليس من شبيحة النظام السوري او بعض الأحزاب الفاشية، فهؤلاء لا يخيفون احدا. بيروت تخاف من نفسها، لذا تتقوقع وتستسلم لزعماء الطوائف اللبنانية الذين يشبهون الرسوم الكاريكاتورية، بعضهم يغلّف حقده الدفين وعنصريته ضد الشعب السوري بمعزوفة خوف الأقليات، وبعضهم الآخر ينتظر سقوط النظام السوري كي يصفي حساباته الطائفية الداخلية. لا احد يرى او هو على استعداد لأن يرى حقيقة الانتفاضة السورية بوصفها ثورة ضد كل الممارسات الاستبدادية، ودعوة الى الانعتاق، لذا لا تستطيع ان تكون جزءا من برنامج طائفي عنصري تافه.
نجح النظام الطائفي اللبناني في ان يبرهن انه نظام استبدادي وان استبداد الطوائف هو اكثر انواع الاستبداد قدرة على تجريد الانسان من روحه وتحويله الى كائن عنصري.
السلطة اللبنانية تعلن انحيازها الكامل الى جانب الديكتاتور ضد الشعب. امن اللاجئين السوريين في لبنان رهينة 'اصدقاء' سورية، حيث يقود حزب الله الأمن، تاركاً لحليفه الجنرال عون تقديم التغطية الايديولوجية والسياسية لذلك.
اما على المستوى الاعلامي، فان الثورة السورية اعلنت موت الاعلام اللبناني. ففي ظل انحياز صحيفتين كبريين للنظام السوري، وضمورالصحيفة الثالثة التي دخلت ما يشبه الموت السريري المهني، نستطيع القول ان هناك ازمة حقيقية في الاعلام اللبناني المكتوب، وان الصحافة اللبنانية تواجه تراجعا لم تشهده في تاريخها.
اما محطات التلفزيون اللبنانية فهي خارج الصورة بشكل غرائبي. بعضها لا يملّ من ترداد معزوفات النظام السوري، فيما يعاني بعضها الآخر تخشباً يرده البعض الى ازمة سيولة مالية، لكنه يعبّر في الواقع عن ازمة سيولة فكرية وابداعية ضربت القطاع الاعلامي برمته.
يستطيع الاعلام التلفزيوني اللبناني ان يتذرع بعجزه المادي عن منافسة الاعلام الفضائي الخليجي، وهو محق في ذلك، لكنه نسي انه يملك رأسمالاً رمزياً كبيراً هو الحرية، قام بالتخلي عنه طوعا، عندما صارت القنوات اللبنانية اداة سياسية في ايدي الطوائف وجنرالاتها، وبذا فقدت حريتها، وتحولت الى ابواق دعائية.
اما الثقافة اللبنانية فهي شبه غائبة، فباستثناء تجمع كبير يتيم دعا اليه بعض المثقفين وبيانات متفرقة صدرت هنا وهناك، ، فان مساهمات المثقفين اللبنانيين تنحصر في كتابة مقالات صحافية، والتعبير من خلال وسائل الاتصال الاجتماعية.
وباستثناء تجمعين ثقافيين- فنيين نظما في مسرح 'دوّار الشمس'، الذي يديره روجيه عسّاف، فان اصوات الفنانين والمثقفين اللبنانيين تكاد لا تُسمع. والطريف ان تقنيات الفن المفهومي والعرض (البرفورمانس)، التي كانت سمة خروج الفنانين الللبنانيين الشباب الى عوالم ما بعد الحداثة، تتحول اليوم الى ادوات رئيسية يستخدمها شابات وشبان الثورة السورية، بينما يغيب الفنانون اللبنانيون الما بعد حداثيين لاهثين خلف تجاربهم العالمية!
صورة انهيار بيروت الثقافي والاخلاقي مروّعة وتثير الخوف والقلق، لأنها تهدد بطي صفحة كبرى في تاريخ الثقافة اللبنانية بدأت فصولها مع النهضويين الكبار وامتدت على مساحة المناخ الثقافي اللبناني الذي استقبل الثقافة العربية الهاربة من القمع وتفاعل معها، وصولا الى 'شقاء العرب'، كما كتبه الشهيد سمير قصير.
من الصعب القبول بهذا الخمول الثقافي والسياسي والأخلاقي الذي لا اجد له تفسيراً سوى في مناخات الخيبة التي اعقبت فشل انتفاضة الاستقلال التي استولى عليها الطائفيون، معلنين عجز البنى الطائفية عن بناء افق يوحد الاستقلال بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، ما يعني بقاء الوطن مؤجلا لأن الطائفية في جوهرها نزعة عنصرية، وبنية لا وطن لها سوى مصالحها الضيقة.
الغريب ان الثورات العربية التي تعلن ولادة وطنيات مختلفة بأفق عربي، تعلن في الوقت عينه افول الوطنية اللبنانية وانحلالها الأخلاقي، وتحولها الى اطر للكراهية العنصرية، تبرر الدفاع عن الاستبداد الأسدي بخواف الأقليات وضرورة تحالفها مع الطغاة!
عقلية زمن المتصرفية تجتاح لبنان، وتحيله الى المكان الأكثر خمولا في المشرق العربي اليوم، وهذه نهاية لا تليق بأحفاد احمد فارس الشدياق، ولا علاقة لها بالصورة التي رسمتها بيروت لنفسها، حين كانت عاصمة الحرية والمقاومة.
المأسوي ان اغلبية الناس لا يشعرون بالمأساة. صارت المدينة مجرد مكان لفولكلور ثقافي يبدأ من عجائب الدنيا السبع وينتهي في ازقة الحمرا حيث يعُتدى بالضرب على كل من تسوّل له نفسه اطلاق هتاف مؤيد للثورة السورية، ويخطف سوريون على مرأى من رجال الأمن او بواسطة الأمن اللبناني المولج بحماية سفير النظام السوري، ويرتفع الصراخ العنصري، الذي يحظى ببركة بعض المراجع الدينية، ويعطينا 'سيد المقاومة' دروساً في ممانعة لا تجد لها حليفا سوى في مافيات النهب والقتل في سورية.
انه البؤس.
والبؤس لا يتحول الى حقيقة الا اذا رضي البائسون ببؤسهم، وتأقلموا معه وحولوه الى نمط حياة.
البؤس ليس قدرا ايها الرفاق.
هنا يقع دور المثقفين والشباب، فعليهم تقع مسؤولية انقاذ بيروت من نفسها ومن انتحارها.
وهذه مسؤولية نبيلة تنتظر من يتصدّى لها قبل فوات الاوان.
"
الياس خوري
"لم تكن الكلمات فارغة من معانيها مثلما هي اليوم. بيروت، وسط ربيع العرب الدموي، تتهاوى كمدينة وكمشروع ثقافي. كلمة حرية التي كانت محور لقاءات معرض الكتاب الفرنكوفوني السنوي في 'البيال'، جاءت ناشفة وبلا معنى.
شيء يثير السخرية والقرف في آن معاً. على بعد امتار قليلة من قاعة 'البيال'، قامت بلدية ضاحية برج حمود بما يشبه التطهير العرقي للعمال الأكراد المقيمين فيها. بؤس العمالة الأجنبية امتزج بالعنصرية، كي نشهد وصول الوقاحة الى ذروتها.
وفي شوارع المدينة وازقتها، تجري عمليات خطف لمواطنين سوريين، وتقوم اجهزة حزبية بالطلب من السوريين تعبئة استمارات، كي يكونوا تحت القبضة الأمنية. واخيرا لا آخرا وصلت الأمور الى حد اعتقال معارضين سوريين في مطار بيروت.
وعلى بعد كيلومترات قليلة تدور المجزرة الأكثر وحشية في تاريخ سورية. ومع ذلك تصمت المدينة، وتتدثّر بالخوف. والخوف في الحقيقة ليس من شبيحة النظام السوري او بعض الأحزاب الفاشية، فهؤلاء لا يخيفون احدا. بيروت تخاف من نفسها، لذا تتقوقع وتستسلم لزعماء الطوائف اللبنانية الذين يشبهون الرسوم الكاريكاتورية، بعضهم يغلّف حقده الدفين وعنصريته ضد الشعب السوري بمعزوفة خوف الأقليات، وبعضهم الآخر ينتظر سقوط النظام السوري كي يصفي حساباته الطائفية الداخلية. لا احد يرى او هو على استعداد لأن يرى حقيقة الانتفاضة السورية بوصفها ثورة ضد كل الممارسات الاستبدادية، ودعوة الى الانعتاق، لذا لا تستطيع ان تكون جزءا من برنامج طائفي عنصري تافه.
نجح النظام الطائفي اللبناني في ان يبرهن انه نظام استبدادي وان استبداد الطوائف هو اكثر انواع الاستبداد قدرة على تجريد الانسان من روحه وتحويله الى كائن عنصري.
السلطة اللبنانية تعلن انحيازها الكامل الى جانب الديكتاتور ضد الشعب. امن اللاجئين السوريين في لبنان رهينة 'اصدقاء' سورية، حيث يقود حزب الله الأمن، تاركاً لحليفه الجنرال عون تقديم التغطية الايديولوجية والسياسية لذلك.
اما على المستوى الاعلامي، فان الثورة السورية اعلنت موت الاعلام اللبناني. ففي ظل انحياز صحيفتين كبريين للنظام السوري، وضمورالصحيفة الثالثة التي دخلت ما يشبه الموت السريري المهني، نستطيع القول ان هناك ازمة حقيقية في الاعلام اللبناني المكتوب، وان الصحافة اللبنانية تواجه تراجعا لم تشهده في تاريخها.
اما محطات التلفزيون اللبنانية فهي خارج الصورة بشكل غرائبي. بعضها لا يملّ من ترداد معزوفات النظام السوري، فيما يعاني بعضها الآخر تخشباً يرده البعض الى ازمة سيولة مالية، لكنه يعبّر في الواقع عن ازمة سيولة فكرية وابداعية ضربت القطاع الاعلامي برمته.
يستطيع الاعلام التلفزيوني اللبناني ان يتذرع بعجزه المادي عن منافسة الاعلام الفضائي الخليجي، وهو محق في ذلك، لكنه نسي انه يملك رأسمالاً رمزياً كبيراً هو الحرية، قام بالتخلي عنه طوعا، عندما صارت القنوات اللبنانية اداة سياسية في ايدي الطوائف وجنرالاتها، وبذا فقدت حريتها، وتحولت الى ابواق دعائية.
اما الثقافة اللبنانية فهي شبه غائبة، فباستثناء تجمع كبير يتيم دعا اليه بعض المثقفين وبيانات متفرقة صدرت هنا وهناك، ، فان مساهمات المثقفين اللبنانيين تنحصر في كتابة مقالات صحافية، والتعبير من خلال وسائل الاتصال الاجتماعية.
وباستثناء تجمعين ثقافيين- فنيين نظما في مسرح 'دوّار الشمس'، الذي يديره روجيه عسّاف، فان اصوات الفنانين والمثقفين اللبنانيين تكاد لا تُسمع. والطريف ان تقنيات الفن المفهومي والعرض (البرفورمانس)، التي كانت سمة خروج الفنانين الللبنانيين الشباب الى عوالم ما بعد الحداثة، تتحول اليوم الى ادوات رئيسية يستخدمها شابات وشبان الثورة السورية، بينما يغيب الفنانون اللبنانيون الما بعد حداثيين لاهثين خلف تجاربهم العالمية!
صورة انهيار بيروت الثقافي والاخلاقي مروّعة وتثير الخوف والقلق، لأنها تهدد بطي صفحة كبرى في تاريخ الثقافة اللبنانية بدأت فصولها مع النهضويين الكبار وامتدت على مساحة المناخ الثقافي اللبناني الذي استقبل الثقافة العربية الهاربة من القمع وتفاعل معها، وصولا الى 'شقاء العرب'، كما كتبه الشهيد سمير قصير.
من الصعب القبول بهذا الخمول الثقافي والسياسي والأخلاقي الذي لا اجد له تفسيراً سوى في مناخات الخيبة التي اعقبت فشل انتفاضة الاستقلال التي استولى عليها الطائفيون، معلنين عجز البنى الطائفية عن بناء افق يوحد الاستقلال بمقاومة الاحتلال الاسرائيلي، ما يعني بقاء الوطن مؤجلا لأن الطائفية في جوهرها نزعة عنصرية، وبنية لا وطن لها سوى مصالحها الضيقة.
الغريب ان الثورات العربية التي تعلن ولادة وطنيات مختلفة بأفق عربي، تعلن في الوقت عينه افول الوطنية اللبنانية وانحلالها الأخلاقي، وتحولها الى اطر للكراهية العنصرية، تبرر الدفاع عن الاستبداد الأسدي بخواف الأقليات وضرورة تحالفها مع الطغاة!
عقلية زمن المتصرفية تجتاح لبنان، وتحيله الى المكان الأكثر خمولا في المشرق العربي اليوم، وهذه نهاية لا تليق بأحفاد احمد فارس الشدياق، ولا علاقة لها بالصورة التي رسمتها بيروت لنفسها، حين كانت عاصمة الحرية والمقاومة.
المأسوي ان اغلبية الناس لا يشعرون بالمأساة. صارت المدينة مجرد مكان لفولكلور ثقافي يبدأ من عجائب الدنيا السبع وينتهي في ازقة الحمرا حيث يعُتدى بالضرب على كل من تسوّل له نفسه اطلاق هتاف مؤيد للثورة السورية، ويخطف سوريون على مرأى من رجال الأمن او بواسطة الأمن اللبناني المولج بحماية سفير النظام السوري، ويرتفع الصراخ العنصري، الذي يحظى ببركة بعض المراجع الدينية، ويعطينا 'سيد المقاومة' دروساً في ممانعة لا تجد لها حليفا سوى في مافيات النهب والقتل في سورية.
انه البؤس.
والبؤس لا يتحول الى حقيقة الا اذا رضي البائسون ببؤسهم، وتأقلموا معه وحولوه الى نمط حياة.
البؤس ليس قدرا ايها الرفاق.
هنا يقع دور المثقفين والشباب، فعليهم تقع مسؤولية انقاذ بيروت من نفسها ومن انتحارها.
وهذه مسؤولية نبيلة تنتظر من يتصدّى لها قبل فوات الاوان.
"
No comments:
Post a Comment