الإخوان في البرلمان
عبد الحليم قنديل
"ربما لا ينطوي أداء نواب جماعة الإخوان في البرلمان المصري الجديد بعد الثورة على مفاجآت ذات بال، وإن بدت صدمة الناخبين فيهم كبيرة .
ونتصور أن الشعور العام بالصدمة سوف يتزايد مع الوقت، فقد حصلت جماعة الإخوان جيدة التنظيم مهولة التمويل على الأغلبية النسبية في انتخابات البرلمان، ولم تكن تلك مفاجأة من أي نوع، فقد توقع كاتب السطور حصول الإخوان على النسبة ذاتها، ونشر توقعه في مقال بـ 'القدس العربي' قبل ما يزيد على أربع سنوات، وحمل المقال عنوان 'إذا حكم الإخوان مصر'، ولم نكن وقتها نرجم بالغيب أو نقرأ الرمل، بل كنا نلحظ تحولا جرى في المجتمع المصري على مدى أربعة عقود سبقت، وانتهى به إلى 'التصويت الديني' بعد حظر وموات السياسة، ثم أن جماعة الإخوان بدت محلا لعطف شعبي جارف، وزادت المطاردات الأمنية من وهجها الأخلاقي، وبدت مشاركاتها البرلمانية السابقة في خانة المعارضة عموما، وفي صف المطالبات الوطنية والاجتماعية، وحصلت الجماعة على خمس مقاعد البرلمان في انتخابات 2005، وهو ما أوحى بأنها القوة القادرة على صناعة بديل لنظام مبارك المخلوع .
ومع انتقال الإخوان من خانة المعارضة إلى اكتساب السلطة، وقد حصلت على السلطة البرلمانية حتى الآن، وربما تقفز إلى السلطة التنفيذية بعد شهور، ومع التحول إلى السلطة، بدأت ممارسات جماعة الإخوان تتغير، وتثير النفور في أوساط تتزايد يوما بعد يوم، وتحولت لغة الإخوان فجأة إلى ما يشبه اللغة الأمنية المعتادة، وعلى طريقة الميل إلى تقييد حريات الصحافة والإعلام المكتسبة عرفيا، واستنكار حوادث التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، ونعت المتظاهرين بالبلطجـــية، وإنكار تورط السلطات العسكرية والأمنية في قتــــل متظاهــــرين، وتقليد المجلس العسكري في ترديد اسطوانات مشروخة عن اللهو الخفي والطرف الثالث، وتكرار الحديث عن مؤامرة في وصف الثورة، وفي التكرار الحرفي لأقوال دفاع المتهمين في قضية مبارك وعصابته.
وفي قضية محاكمة مبارك بالذات، بدا انكشاف الإخوان سريعا ومثيرا، فالكل يسلم بعبث وسخف وهزلية محاكمة مبارك الجارية، وعدم اشتمالها على تهمة الخيانة العظمى، وهو ما تنبه إليه كثيرون من نواب المعارضة الجديدة في البرلمان، وبحثوا عن مخرج قانوني جدا، ووجدوا ضالتهم في أرشيف القوانين المصرية السارية، فقد صدر أواسط العام 1956- قانون لمحاكمة رئيس الجمهورية، وبدا القانون المنسي كامل الأوصاف، فهو يحدد بصيغة قانونية تكييف تهمة الخيانة العظمى، وطرق توجيها لمن شغل أو يشغل منصب الرئيس، ويضيف لمعنى الخيانة العظمى حالات مخالفة الدستور والعبث بالنظام الجمهوري، وقد نصت دساتير مصر كلها بعد ثورة 1952 على تهمة الخيانة العظمى، وبما فيها دستور 1971 الذي ظل ساريــــا وقت حكم مبارك، ولا يحتاج القانون المكتشف إلى إضافة، اللهم إلا تفعيــــله من قبل البرلمان الحالي ذي الأغلبية الإخوانية والسلفية، وقد قدمه بالفعل نواب المعارضة الجديدة، وطلبوا سرعة إقــــراره وتفعيله، وبدء محاكمة جدية لمبارك بتهمة الخيانة العظـــمى، وهنا بدا تلكؤ الإخوان، بل ورفضهم الصريح لتطبيق قانون الخيانة العظــــمى، واستعانتهم بفتاوى جماعــــة مبارك في المجلس العسكري والحكومة، وتطابقهم مع مواقف نواب لحزب مبارك المنحل تسللوا إلى البرلمان الجديد، والمثير أن مواقف بعض نواب السلفيين بدت أكثر تقدما من نواب الإخوان، خاصة نواب حزب 'الأصالة' السلفي.
ورغم أنه لم يمض على عمل البرلمان الجديد سوى أسابيع، فقد أدى الانكشاف السريع للإخوان إلى تزايد حدة الانتقادات الموجهة لهم، وتكريس انطباع بأنهم يكررون تجربة حزب مبارك نفسه، وسريان وصف جماعة الإخوان بالحزب الوطني الجديد، ورغم أن الوصف ينطوي على قدر من القسوة، إلا أن أفعال قيادة الإخوان توحي بالتشابه المسيء، فقد بدأ نواب الإخوان عملهم بشن حملة ضارية على المجلس العسكري وحكومته في أول جلسة، وطالبوا بسحب الثقة من الحكومة، ومن وزير الداخلية بالذات، إلا أن قيادة الإخوان سرعان ما أصدرت أوامرها، وكانت النتيجة التواء في لسان نواب الإخوان، وتحولهم عن شراسة اللغة إلى صمت الحملان، بل والتورط في التحرش البدني واللفظي بنواب من خارج الإخوان، وتقييد فرصهم في الكلام من خلال تحكم الإخوان في رئاسة الجلسات، وهو ما أدى لمواجهات عنيفة زادت من حرج نواب الإخوان، وإنقيادهم لمبعوثي مكتب الإرشاد الإخواني، وعلى طريقة انقياد نواب حزب مبارك فيما مضى لإشارات وأوامر كمال الشاذلي ثم أحمد عز .
ومن الظلم بالطبع أن نأخذ كل الإخوان بجريرة مكتب الإرشاد، والذي تعقد عنده الصفقات والاتفاقات الكبرى، وتدار التفاهمات مع جنرالات المجلس العســـكري، ومــــع قوى إقليـــمية ودولية متضررة من اندفاع الثورة المصرية، وتخشى تحطم نظــــام مبارك بعد خــــلع رأسه، وتسعى إلى إعادة ترميمه، وتعول على 'إعتدال' و'عقــــلانية' و'براجماتية' قـــيادة الإخوان، وتريد استبقاء اختـــيارات مبارك ذاتها، وعلى وجــــه الخصــوص في ميداني الاقتصاد والعلاقة بالأمريكيين والإسرائيليين، وهو ما سيضاعف من حرج نواب الإخوان، ويخرجهم عن الملة الراديكالية التي انتسبوا إليها طويلا، خاصة أن نوابا راديكاليين من خارج الإخوان طبعا سوف يطرحون خيارات أخرى، ومن نوع فرض ضرائب تصاعدية بنسبة عالية على طبقة المليونيرات والمليارديرات، وإلغاء اتفاق تصدير الغاز لاسرائيل، وربما إلغاء اتفاق الكويز، وعندها تزيد محنة نواب الإخوان، ويزيد الانكشاف، وفي بيئة متوترة، لا تهدأ فيها الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات، وتزيد من ضغط تحركات الميدان على تصرفات البرلمان، وتضاعف وتائر الاستقطاب السياسي والاجتماعي .
وبصفة عامة، فإن القاعدة الذهبية تبدو واضحة جلية، وفي صورة معادلة حسابية عكسية، وهي أنه كلما زاد تورط الإخوان في السلطة، كلما مالت شعبيتها إلى التناقص، وكلما زادت خيبة أمل الناخبين في الإخوان، خاصة أن قيادة الإخوان الحالية جماعة يمينية بامتياز، وخاضعة لنفوذ مليارديرات كبار لهم مصلحة في استنساخ اختيارات نظام مبارك، وفي العداء الصريح لطلائع الثورة الشعبية المصرية، وربما العداء لمزاج راديكالي نسبيا في قواعد جماعة الإخوان، وهي تضم مزيجا هائلا من الفئات الوسطى والدنيا اجتماعيا، وهو ما يغري بتوقع زيادة موجات الهجرة من الإخوان، ونشأة مجموعات إخوانية خارج التنظيم الإخواني ذاته، وإعادة تشكيل خرائط السياسة بطريقة تخصم طرديا من نفوذ قيادة الإخوان .
"
عبد الحليم قنديل
"ربما لا ينطوي أداء نواب جماعة الإخوان في البرلمان المصري الجديد بعد الثورة على مفاجآت ذات بال، وإن بدت صدمة الناخبين فيهم كبيرة .
ونتصور أن الشعور العام بالصدمة سوف يتزايد مع الوقت، فقد حصلت جماعة الإخوان جيدة التنظيم مهولة التمويل على الأغلبية النسبية في انتخابات البرلمان، ولم تكن تلك مفاجأة من أي نوع، فقد توقع كاتب السطور حصول الإخوان على النسبة ذاتها، ونشر توقعه في مقال بـ 'القدس العربي' قبل ما يزيد على أربع سنوات، وحمل المقال عنوان 'إذا حكم الإخوان مصر'، ولم نكن وقتها نرجم بالغيب أو نقرأ الرمل، بل كنا نلحظ تحولا جرى في المجتمع المصري على مدى أربعة عقود سبقت، وانتهى به إلى 'التصويت الديني' بعد حظر وموات السياسة، ثم أن جماعة الإخوان بدت محلا لعطف شعبي جارف، وزادت المطاردات الأمنية من وهجها الأخلاقي، وبدت مشاركاتها البرلمانية السابقة في خانة المعارضة عموما، وفي صف المطالبات الوطنية والاجتماعية، وحصلت الجماعة على خمس مقاعد البرلمان في انتخابات 2005، وهو ما أوحى بأنها القوة القادرة على صناعة بديل لنظام مبارك المخلوع .
ومع انتقال الإخوان من خانة المعارضة إلى اكتساب السلطة، وقد حصلت على السلطة البرلمانية حتى الآن، وربما تقفز إلى السلطة التنفيذية بعد شهور، ومع التحول إلى السلطة، بدأت ممارسات جماعة الإخوان تتغير، وتثير النفور في أوساط تتزايد يوما بعد يوم، وتحولت لغة الإخوان فجأة إلى ما يشبه اللغة الأمنية المعتادة، وعلى طريقة الميل إلى تقييد حريات الصحافة والإعلام المكتسبة عرفيا، واستنكار حوادث التظاهر والإضراب والاعتصام السلمي، ونعت المتظاهرين بالبلطجـــية، وإنكار تورط السلطات العسكرية والأمنية في قتــــل متظاهــــرين، وتقليد المجلس العسكري في ترديد اسطوانات مشروخة عن اللهو الخفي والطرف الثالث، وتكرار الحديث عن مؤامرة في وصف الثورة، وفي التكرار الحرفي لأقوال دفاع المتهمين في قضية مبارك وعصابته.
وفي قضية محاكمة مبارك بالذات، بدا انكشاف الإخوان سريعا ومثيرا، فالكل يسلم بعبث وسخف وهزلية محاكمة مبارك الجارية، وعدم اشتمالها على تهمة الخيانة العظمى، وهو ما تنبه إليه كثيرون من نواب المعارضة الجديدة في البرلمان، وبحثوا عن مخرج قانوني جدا، ووجدوا ضالتهم في أرشيف القوانين المصرية السارية، فقد صدر أواسط العام 1956- قانون لمحاكمة رئيس الجمهورية، وبدا القانون المنسي كامل الأوصاف، فهو يحدد بصيغة قانونية تكييف تهمة الخيانة العظمى، وطرق توجيها لمن شغل أو يشغل منصب الرئيس، ويضيف لمعنى الخيانة العظمى حالات مخالفة الدستور والعبث بالنظام الجمهوري، وقد نصت دساتير مصر كلها بعد ثورة 1952 على تهمة الخيانة العظمى، وبما فيها دستور 1971 الذي ظل ساريــــا وقت حكم مبارك، ولا يحتاج القانون المكتشف إلى إضافة، اللهم إلا تفعيــــله من قبل البرلمان الحالي ذي الأغلبية الإخوانية والسلفية، وقد قدمه بالفعل نواب المعارضة الجديدة، وطلبوا سرعة إقــــراره وتفعيله، وبدء محاكمة جدية لمبارك بتهمة الخيانة العظـــمى، وهنا بدا تلكؤ الإخوان، بل ورفضهم الصريح لتطبيق قانون الخيانة العظــــمى، واستعانتهم بفتاوى جماعــــة مبارك في المجلس العسكري والحكومة، وتطابقهم مع مواقف نواب لحزب مبارك المنحل تسللوا إلى البرلمان الجديد، والمثير أن مواقف بعض نواب السلفيين بدت أكثر تقدما من نواب الإخوان، خاصة نواب حزب 'الأصالة' السلفي.
ورغم أنه لم يمض على عمل البرلمان الجديد سوى أسابيع، فقد أدى الانكشاف السريع للإخوان إلى تزايد حدة الانتقادات الموجهة لهم، وتكريس انطباع بأنهم يكررون تجربة حزب مبارك نفسه، وسريان وصف جماعة الإخوان بالحزب الوطني الجديد، ورغم أن الوصف ينطوي على قدر من القسوة، إلا أن أفعال قيادة الإخوان توحي بالتشابه المسيء، فقد بدأ نواب الإخوان عملهم بشن حملة ضارية على المجلس العسكري وحكومته في أول جلسة، وطالبوا بسحب الثقة من الحكومة، ومن وزير الداخلية بالذات، إلا أن قيادة الإخوان سرعان ما أصدرت أوامرها، وكانت النتيجة التواء في لسان نواب الإخوان، وتحولهم عن شراسة اللغة إلى صمت الحملان، بل والتورط في التحرش البدني واللفظي بنواب من خارج الإخوان، وتقييد فرصهم في الكلام من خلال تحكم الإخوان في رئاسة الجلسات، وهو ما أدى لمواجهات عنيفة زادت من حرج نواب الإخوان، وإنقيادهم لمبعوثي مكتب الإرشاد الإخواني، وعلى طريقة انقياد نواب حزب مبارك فيما مضى لإشارات وأوامر كمال الشاذلي ثم أحمد عز .
ومن الظلم بالطبع أن نأخذ كل الإخوان بجريرة مكتب الإرشاد، والذي تعقد عنده الصفقات والاتفاقات الكبرى، وتدار التفاهمات مع جنرالات المجلس العســـكري، ومــــع قوى إقليـــمية ودولية متضررة من اندفاع الثورة المصرية، وتخشى تحطم نظــــام مبارك بعد خــــلع رأسه، وتسعى إلى إعادة ترميمه، وتعول على 'إعتدال' و'عقــــلانية' و'براجماتية' قـــيادة الإخوان، وتريد استبقاء اختـــيارات مبارك ذاتها، وعلى وجــــه الخصــوص في ميداني الاقتصاد والعلاقة بالأمريكيين والإسرائيليين، وهو ما سيضاعف من حرج نواب الإخوان، ويخرجهم عن الملة الراديكالية التي انتسبوا إليها طويلا، خاصة أن نوابا راديكاليين من خارج الإخوان طبعا سوف يطرحون خيارات أخرى، ومن نوع فرض ضرائب تصاعدية بنسبة عالية على طبقة المليونيرات والمليارديرات، وإلغاء اتفاق تصدير الغاز لاسرائيل، وربما إلغاء اتفاق الكويز، وعندها تزيد محنة نواب الإخوان، ويزيد الانكشاف، وفي بيئة متوترة، لا تهدأ فيها الإضرابات والتظاهرات والاعتصامات، وتزيد من ضغط تحركات الميدان على تصرفات البرلمان، وتضاعف وتائر الاستقطاب السياسي والاجتماعي .
وبصفة عامة، فإن القاعدة الذهبية تبدو واضحة جلية، وفي صورة معادلة حسابية عكسية، وهي أنه كلما زاد تورط الإخوان في السلطة، كلما مالت شعبيتها إلى التناقص، وكلما زادت خيبة أمل الناخبين في الإخوان، خاصة أن قيادة الإخوان الحالية جماعة يمينية بامتياز، وخاضعة لنفوذ مليارديرات كبار لهم مصلحة في استنساخ اختيارات نظام مبارك، وفي العداء الصريح لطلائع الثورة الشعبية المصرية، وربما العداء لمزاج راديكالي نسبيا في قواعد جماعة الإخوان، وهي تضم مزيجا هائلا من الفئات الوسطى والدنيا اجتماعيا، وهو ما يغري بتوقع زيادة موجات الهجرة من الإخوان، ونشأة مجموعات إخوانية خارج التنظيم الإخواني ذاته، وإعادة تشكيل خرائط السياسة بطريقة تخصم طرديا من نفوذ قيادة الإخوان .
"
No comments:
Post a Comment