ثورة آذار السورية بين إشكاليتين :
إشكالية التاريخ وإشكالية الجغرافيا
د. محمد أحمد الزعبي
1.
بلغت العناصرالمتعلقة في هذا الموضوع ، خلال إعدادي لمخطط هذه المقالة ، أكثرمن عشرين عنصراً إشكالياً ، موزعين على الجوانب الأساسية المتعلقة في موضوع مابات معروفاً بثورة 15 آذار 2011 السورية ، وذلك في كل من : سورية نفسها ، جامعة الدول العربية ، دول الجوار الإقليمي غير العربي (ولاسيما : إيران ، تركيا ، إسرائيل ) ، دول الفيتو الخمس ،( ولاسيما روسيا وأمريكا ) . هذا وتدور مجمل هذه العناصر، من الناحيتين النظرية والعملية ، حول :
أولاً : خوف كل من أمريكا والدول الغربية وروسيا ( والصين إلى حد ما ) ، على إسرائيل من البديل الديموقراطي السوري ، لنظام عائلة الأسد ،( فوبيا الديموقراطية ) ، وذلك لأن إسرائيل إنما أنشأتها هذه الدول الكبرى عام 1948 ، كجسر قار تعبر من خلاله بصورة آمنة نحو مصالحها الاقتصادية في الوطن العربي، ولاسيما النفطية منها .
إن الجغرافيا التي جعلت من إسرائيل " دولة !" مجاورة لسورية هي من جعل الدول الحريصة على بقاء وحماية إسرائيل ، حريصة على بقاء حكم عائلة الأسد في دمشق ، بعد أن أثبتت هذه العائلة نجاحها في السكوت المطلق على احتلال اسرائيل لهضبة الجولان طوال أربعة عقود ، وأيضاً تخليها المطلق أيضاً عن قضية العرب الأولى ، القضية الفلسطينية ، كما هو معروف لدى الجميع .
ثانياً : خوف الغرب ، وبعض الدول الإقليمية ، وبعض الدول العربية ، على الطابع العلماني الذي طبع الحياة السياسة السورية بعد الإستقلال 1946 ، والذي ارتكز بصورة أساسية على أولوية الفكر القومي العلماني ، ( المقبول من لأقليات) ، على الفكر الديني ، وذلك إذا ماجاءت الديموقراطية السورية ببديل إسلامي ( غير علماني ) لنظام عائلة الأسد المحسوبة زوراً على العلمانية ( فوبيا الإسلام ) ،
2.
لقد ترتب على هذين الخوفين ، جملة من الإشكالات ، السورية ، والعربية ، والإسلامية ، والدولية ، التي انعكست سلباً على مسيرة ثورة آذار 2011 ، وزاد ت في خسائرها البشرية والمادية ، وحالت دون وصولها إلى أهدافها ( الحرية والكرامة ) بسرعة و بأقل الخسائر ، أبرز هذه الإشكالات :
ـــ التناقضى بين القول والفعل ، عند الدول الكبرى المعنية بالوضع السوري ، والتي تم ذكرها أعلاه ، ذلك أنهم لايستطيعون أن يفصحوا عن مواقفهم الحقيقية ، سواء فيما يتعلق بالخوف على إسرائيل من البديل الديموقراطي السوري ، أو بالخوف من خسارتهم لورقة " الأقليات" في سورية ، وفي المنطقة العربية ككل ، وذلك علي يد البديل الإسلامي ، ولاسيما أن الثورة السورية الراهنة ، لم تطرح كأهداف نهائية لها سوى " الحرية والكرامة " ، وذلك عبر إسقاط النظام الديكتاتوري الشمولي الوراثي لعائلة الأسد ، واستبداله بنظام مدني ديموقراطي تعددي وتداولي ، وهو أمر لايستطيع حاكم عاقل في الشرق أو الغرب، أن ينكره أو يتنكر له بصورة مكشوفة ، لأن مثل هذا الموقف إنما يعني الوقوف إلى جانب الديكتاتورية ضد الديموقراطية ، وأيضاً ضد حقوق الإنسان ، وهو مالا تقبله الشعوب والجماهيرالتي يحكمونها ، ناهيك عن الشعب السوري نفسه وهو المعني الأول والأخير بالوصول إلى شاطئ الحرية والديموقراطية والكرامة عبر هذه الثورة الشعبية المباركة .
ـــ الجمهورية الوراثية : ونرغب أن نستشهد في إطار هذه الفقرة ، بالحكاية التالية ، التي حدثت معنا شخصياً ، ألا وهي : أنني كنت في طريقي من مدينة لايبزغ الألمانية إلى مدينة أخرى لزيارة أحد الأصدقاء ، عندما رن جرس هاتفي ، لينقل لي أحدهم نبأ وفاة حافظ الأسد في دمشق . لاأنكرأنني قد سررت بهذا الخبر، وتصورت أن النظام الديكتاتوري في سورية قد انتهى مع نهاية صاحبه. وعندما وصلت بيت الصديق الذي كنت في طريقي إليه ، وهو مواطن سوري علماني وديموقراطي وتقدمي أخبرته بوفاة الديكتاتور ، وبوجهة نظري حول إمكانية انتهاء الديكتاتورية في سورية ، ولكني فوجئت بموقف آخر منه مختلف عن موقفي حول هذا الموضوع ، حيث أبلغني بأنه على علم تام بأن "عائلة الأسد" ليست بصدد التخلي عن الحكم ، وأن الأب قد هيّأ لنظامه ( ولأسباب تاريخية ) "وريثاً " سوف يكون أشد حرصاً منه على استمرار " العائلة " في الحكم ، ألا وهو ابنه " بشار " ، وبالتالي فإن الشعب السوري سوف ينتقل عمليّاً " من تحت الدلفة لتحت المزراب " !! ، وأن " الجمهورية العربية السورية " سوف تتحول على
يد بشار إلى جملكية ( جمهورية وراثية ) تحكمها وتتحكم بها "عائلة الأسد " إلى أجل غير مسمى !! . وهو ماحصل فعلاً بعد وفاة حافظ الأسد ( الأب). إنها إشكالية الماضي التي مازال البعض يعيش على ذكراها التي أكل عليها الدهر وشرب ، ويحاول توظيفها لخدمة مآربه ومخططاته المشبوهة والمكشوفة ، سواء في الحاضر أوفي المستقبل إذا أمكن .
3.
ثورة 15 / 18 آذار 2011 في سورية ( ربيع دمشق الثاني ) :
نتفق مع لينين على ضرورة عدم اللعب بالثورة وبالانتفاضة المسلّحة ، وعدم استعجالهما ، حيث أنه لن يختفي نظام إجتماعي ــ سياسي قبل أن تكون قد نضجت جميع القوى التي يتضمنها ، والتي تؤذن بقرب انتهائه ، كما أننا نتفق معه أيضاً في استبعاد كل من تصدير أو استيراد الثورة . وفي أن الثورة مستحيلة من دون أزمة وطنية عامة تلف جميع فئات الشعب ، وتوقع الارتباك واليأس والهلع في صفوف الفئة الحاكمة ، وتؤذن بدنو النضج الثوري . ويلخص لينين الأعراض التي تنذر بوجود هذا النضج ، وبالتالي تؤذن بالانفجار الثوري بـ :
ـــ الطبقات الدنيا ترفض والطبقات العليا لاتستطيع ،
ـــ تزايد البؤس والشقاء ،
ـــ نشاط وغليان خارق للعادة .
إن اندلاع الثورة ، في سوريا ، في النصف الثاني من شهرمارس 2011 هو بحد ذاته البرهان العلمي والعملي على أن الأوضاع السياسية والاجتماعية والاقتصادية قد بلغت أعلى درجات النضج الثوري وأن الشعب السوري بكل فئاته ومكوناته ، بات جاهزاً للدفاع عن حريته وكرامته ، مهما كلفه ذلك من تضحيات لقد حاول بشار الأسد ، ان يحتوي هذه الثورة من خلال طعم الإصلاح الكاذب ، ظانّا أنه بضحكته ال.. ، المعروفة ، يستطيع أن يغري هذا الشعب بابتلاع هذا الطعم ، ولكن الشعب السوري كان أكثر وعياً مما تصوره " سيادته !! " ، ورد عليه بكل جدية ووضوح إلعب غيرها ياسيادة الوريث !! .
هذا مع العلم أن هناك فرقاً بين " الإصلاح " كدرجة من درجات النضج الثوري ، والإصلاح كأيديولوجية مكتفية ذاتيّاً ،والإصلاح كنوع من " الضحك على الذقون " بحيث يمكن القول بوجود علاقة تكامل بين الإصلاح والثورة في الفهم الأول ، بينما هناك علاقة تعارض وتناقض بينهما في الفهم الثاني والثالث .
وتبين لنا من العودة إلى وعود وخطب بشارالأسد ،المفارقات العجيبة التي سمعناها في تلك " الخطابات "
والتي يمكن تلخيصها وتجسيدها في عبارة " نعم .. ولكن " ، أو بتعبير آخر، أخذه بالشمال مايعطيه باليمين ، وبالتالي فإن الحصيلة العامة لخطبه ، ولوعوده الإصلاحية الشكلية الكاذبة ، كانت دائماً " تيتي تيتي مثل مارحتي مثل ماجيتي !! " .اللهم إلاً الاستمرا ر المتواصل ودون هوادة بسفك دماء المتظاهرين السلميين ، ومن بينهم ، بل وفي مقدمتهم ، الأطفال والنساء والشيوخ ، وبمختلف الطرق والأساليب غير الإنسانية وغير الأخلاقية ، بدءاً من القنص المنظم ، وانتهاءً بالقتل تحت التعذيب النفسي والجسدي ، مروراً بكل مايمكن أن يخطر على بال بشرمن أنواع التنكيل والقتل واغتصاب النساء، والمقابر الجماعية ، ودفن الثوار وهم أحياء تحت التراب ..الخ !!.
يخيل إليّ أن الغالبية الساحقة من شباب ثورة آذار السورية ، بل مئات الألوف الذين تغص بهم صباح مساء شوارع حمص وحماه ودرعا وإدلب وحلب ودمشق ودير الزور ، بل وكافة المدن والقرى السورية ، لم يقرؤوا نصائح لينين التي أوردناها أعلاه ، ولكنهم قد ابتكروا خطة طريقهم بأنفسهم ولأنفسهم ، وباتوا يستحقون عن جدارة أن يطلق عليهم اسم " قادة الربيع العربي ".
إن هتافاتهم الوطنية والقومية والديموقراطية لم تتغير ولم تضمر منذ 15آذار 2011 وحتى اليوم ( سلمية ، سلمية / واحد ، واحد ، واحد ، الشعب السوري واحد / الشعب يريد إسقاط النظام / سورية بدها حرية / الموت ولا المذلّة / الله أكبر .. الخ . ) ، ولم يكونوا بحاجة إلى منابر " الأفندية " ( وأنا مع الأسف واحد منهم ) ، لكي يقولوا لهم ماذا عليهم أن يفعلوا أو لايفعلوا ! .
إن مطلب الحرية والكرامة كغاية ، والديموقراطية والمواطنة والعدالة الاجتماعية كوسيلة ، باتت هي الخبز اليومي لشباب سورية وشاباتها ، لرجالها ونسائها ، لأطفالها وشيوخها ، بل ولأبطال الجيش السوري الحر الذي رفض جنوده وضباط صفه وضباطه إطلاق النارعلى إخوتهم وأخواتهم في المظاهرات السلمية والمشروعة ، وقرروا أن ينشقوا عن " كتائب عائلة الأسد " ، وينضموا إلى إخوانهم وأخواتهم في ثورة آذار المجيدة ، ويقوموا بواجبهم الوطني والقومي والإنساني في الدفاع عن هؤلاء المتظاهرين السلميين .
إن أحداً ما عاد بإمكانه أن يوقف عجلة هذه الثورة ، قبل وصولها إلى برالأمان ، برّ الحرية والكرامة والديموقراطية ، برّ إسقاط نظام عائلة الأسد بكل عناصره ورموزه ، واستبداله بنظام مدني ديموقراطي تعددي وتداولي ، يتجسد في مثلث متساوي الأضلاع ، قاعدته المواطنة المتساوية لجميع فئات ومكونات الشعب السوري ، وضلعاه الآخران هما الدستور الموضوع من قبل هيئة منتخبة ، و صندوق الاقتراع النزيه والشفاف .
No comments:
Post a Comment