وحدة تحليل السياسات في المركز | 07 يناير ،2014
اندلعت في محافظة الأنبار غربي العراق مواجهات عنيفة بين قوات الجيش والأجهزة الأمنية من جهة، ومسلحين من أبناء عشائر المحافظة من جهة أخرى؛ وذلك إثر قيام قوات الأمن العراقية بفضّ اعتصام مدينة الرمادي بعد أن اعتقلت أحد أبرز قياديي الاحتجاجات وهو النائب في البرلمان العراقي أحمد العلواني، ما فتح الباب أمام مواجهات لاحت من خلالها نذر صراع طائفي واسع النطاق.
خلفيات الأزمة المتجددة
تفاقم الموقف في محافظة الأنبار المنتفضة منذ نحو عام مع خمس محافظات عراقية أخرى (ديالى وصلاح الدين والموصل، وقطاع واسع من كركوك، فضلًا عن العاصمة بغداد) للمطالبة بحقوقٍ سياسيةٍ وخدميةٍ ومعيشيةٍ. ويأتي في مقدمة مطالب المنتفضين وقف التمييز الطائفي الذي تتعرّض له المكونات السنية العراقية وإلغاء ما يعرف بالمادة "أربعة إرهاب" في القانون العراقي، التي يطلق عليها المحتجون تهكمًا اسم "أربعة سنّة"؛ للتعبير عن الشعور السائد بأنها تستهدف العرب السنة. كما يطالب المحتجون بإلغاء قانون المساءلة والعدالة الذي حلّ محلّ قانون اجتثاث البعث.
وعلى الرغم من أنّ مطالب المنتفضين كانت تشمل ما يعانيه العراقيون كافة من التهميش والفساد المالي والإداري وغياب الخدمات، فإنّ الحكومة أصرّت على أنها مطالب ذات أهداف طائفية (سنية) من أجل تحييد المكوّن الثاني من مكوّنات عرب العراق وهو المكوّن الشيعي، وذلك بتغذية مخاوفه وتهويلها من خلال الإيحاء بعودة "الهيمنة السنية" على الدولة التي يسعى لها حزب البعث وتنظيم القاعدة (على الرغم من التناقض والتنافر بينهما).
وقد تمكنت الحكومة نتيجة هذا الخطاب - مستفيدة من ممارسات القاعدة وتفجيراتها - من تعميق الهوة بين سنة العراق وشيعته. ولعل أبلغ دليل على ذلك هو عدم تناغم محافظات الجنوب ذات الأغلبية الشيعية مع المطالب الوطنية المشروعة للمحافظات الست المنتفضة[1]؛ إذ تتخذ معظم تعليقات الشباب و"تغريداتهم" من المكوّنين على وسائل الاتصال الاجتماعي طابعًا طائفيًا على الرغم من وحدة الهموم.
الأبعاد الإستراتيجية للأزمة
جاءت الأحداث الأخيرة في الأنبار في سياق تعود مقدماته إلى بداية الثورة السوريّة، عندما أخذت السلطة الحاكمة في بغداد تتحسّب من تداعيات هذه الثورة على الوضع العراقي الداخلي؛ فأضفت عليها تفسيرًا طائفيًا كإجراء احترازي، وتوقعت أن تمتد تداعياتها إلى محافظات العراق الغربية الثلاث المجاورة لسورية، وهي الأنبار، ونينوى (الموصل)، وصلاح الدين، ثم تنتشر منها باتجاه ديالى وكركوك وبغداد وجوارها. وتوقعت السلطة الحاكمة وأحزابها السياسية أن تنشأ وحدة "سنية" الطابع بين محافظات العراق الغربية والوسطى وبين الثورة السوريّة. وقد صرّح باقر صولاغ، أحد قياديي التحالف الوطني العراقي (الشيعي)، بأنّ القتال سينتقل إلى أسوار بغداد لو أتيح للثورة السوريّة أن تنتصر[2].
ولذلك، ثمة تحسّب كبير لاحتمال انتصار الثورة السوريّة، وحذر أكبر من احتمال انتقالها إلى العراق، وما يترتب على ذلك من تداعيات إستراتيجية كبيرة على وضع إيران الإقليمي، وإمكانية انقطاع الرابط الجيوبولتيكي الحيوي الذي يربط "الرأس" الإيراني بامتدادات مصالحه الأمنية وغيرها في سورية ولبنان. وفي هذا الإطار، تشكّل الأنبار الحلقة الأضعف في هذا الرابط الطبيعي الذي أنشأته إيران مستفيدة من ظروف الاحتلال الأميركي، وسيطرة الأحزاب التي تدين لها بالولاء على مقاليد الأمور في العراق، وتجمع بين تحالفها مع إيران والتحالف مع الولايات المتحدة.
لقد كان خط الاتصال البريّ بين العراق وسورية الذي تمر عبره الإمدادات من إيران لنظام بشار الأسد مهددًا من قبل فصائل المعارضة السوريّة بسبب القتال الدائر في مناطق شرق سورية، لكنّ هذا الطريق لم يعد آمنًا مطلقًا منذ اندلاع انتفاضة الأنبار في كانون الأول/ ديسمبر 2012؛ إذ تصدى الثائرون في الأنبار مرات عديدة لأرتال عسكرية كانت تهدف إلى اختراق طريق المرور السريع الدولي متجهة صوب منطقة الحدود مع سورية، لأنّ تلك الطريق جرى قطعها قبل وصولها الفلوجة، وكذلك في الرمادي .
وفي العموم تعاني سيطرة الحكومة على الطرق الخارجية اختلالات كبيرة نتيجة مرور معظمها في مناطق تقطنها أغلبية معارضة؛ فمحافظة ديالى – مثلًا - الواقعة إلى الشرق من بغداد تسيطر على خط المواصلات الإستراتيجي الذي يربط العراق بإيران. ومن هنا، نجد سعي الحكومة للسيطرة على هذه المحافظة بالوسائل كافة، بما فيها التهجير على أساس طائفي عند المفاصل الحيوية على هذه الطريق، وبخاصة في منطقة المقدادية ذات الأغلبية السنية، والتي تبعد 50 كيلومترًا فقط عن خط الحدود الدولي مع إيران. أطلقت الحكومة في هذه المنطقة يد الميليشيات لتنفيذ التهجير الطائفي في محاولة لإحكام السيطرة على الطريق الدولي التي تربط العراق بإيران فور خروجها من سلسلة جبال حمرين التي تقع إلى الشرق من المقدادية. ويصح الشيء نفسه على الطريق التي تربط بغداد بالموصل؛ إذ إنها تخترق مناطق تقطنها عشائر (سنية)، بالإضافة إلى الطريقين اللتين تربطان بغداد بالبصرة عبر محوري الفرات ودجلة، فهما تخترقان مناطق تقطنها أغلبية سنية على امتداد مسافة 50 كيلومترًا من بغداد.
يمثل احتمال قطع الطرق الخارجية تهديدًا إستراتيجيًا لقدرة الحكومة الحالية على فرض سلطتها في أنحاء العراق. وقد شكلت الأنبار تحدٍ كبيرٍ في هذا السياق خاصة بعد الانتفاضة؛ إذ جرى قطع الطريق الدولية على فترات. كما جرى قطعها مجددًا كرد فعل على التدخل العسكري الأخير لقوات رئيس الوزراء نوري المالكي من مداخل الفلوجة الشرقية (60 كيلومترًا إلى الغرب من بغداد).
الأبعاد الداخلية للأزمة
يعاني رئيس الوزراء نوري المالكي تراجعًا كبيرًا في التأييد الشعبي الذي يحتاج إليه من أجل ضمان فوزه في الدورة الانتخابية القادمة وحصوله على ولاية ثالثة. وقد بدا ذلك التراجع واضحًا في انتخابات مجالس المحافظات الأخيرة أمام منافسيه من الشيعة، وفي مقدمتهم المجلس الإسلامي الأعلى الذي يضمه مع المالكي التحالف الوطني العراقي، والذي يجمع الأحزاب السياسية الشيعية. كما أنّ خروج التيار الصدري عن قواعد اللعبة السياسية الذي مثّلها هذا التحالف، واستقالة بعض الوجوه القيادية في ائتلاف دولة القانون الذي يرأسه المالكي، فضلًا عن ظهور اعتراضات في أوساط قريبة من رئيس الوزراء بشأن النفوذ الذي بدأ يتمتع به نجله في إدارة شؤون الدولة؛ كل ذلك جعل المالكي يشعر بالتهديد خصوصًا في بغداد التي حاز فيها أعلى الأصوات في الانتخابات البرلمانية الأخيرة. لذلك وجد المالكي في تضخيم التهديد الذي تمثله الأنبار في وعي العامة من مناصريه وسيلة جذبٍ لأغلبية الرأي العام الشيعي في العراق الذي أخذ ينفضّ من حوله مع اقتراب انتخابات مصيرية بالنسبة إليه. وهذا ما يجعل غرضًا انتخابيًا يقف وراء التصعيد في الموقف من ساحات الاعتصام في الأنبار.
ويشكِّل التشظي في الوضع الداخلي السنّي عاملًا آخر مهمًا بنى عليه المالكي قراره في اقتحام ساحة اعتصام الرمادي، لأنّ سنوات من سيطرة التشكيلة السياسية الحالية على السلطة أوجدت شركاء للمالكي من العرب السنة. وعلى الرغم من أنّ هؤلاء كانوا يظهرون معارضة أحيانًا تجاه المالكي، فإنهم أعطوه شرعية الحكم وادعاء المشاركة فيه. وقد أسهم فشل هذه الكتلة السياسية السنية في طلب المالكي للاستجواب أمام البرلمان ونزع الثقة عن حكومته في تكريس الأمر الواقع الذي تمثّل بهيمنة رئيس الحكومة على قدرات البلد وقراراته.
وعلى الرغم من أنّ الحزب الإسلامي العراقي (سني) كان دائمًا الحليف الطبيعي للمالكي في العملية السياسية والمستعد دائمًا لتقديم تغطية له مقابل مكاسب هزيلة، فإنّ هذا الحزب لا يمثل إلا أقلية في المشهد السياسي العراقي؛ إذ لم يحصل في انتخابات عام 2010 إلا على بضعة مقاعد. لذلك يمكن القول إنّ تأثير تيارات الإسلام السياسي في الرأي العام السني في العراق محدود جدًا؛ فسنة العراق هم من كانوا وراء فوز القائمة العراقية العابرة للطوائف في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، مع أنها حرمت من حقها في تشكيل الحكومة نتيجة اتفاق أميركي - إيراني انضمت إليه تركيا في حينه وكفل بقاء المالكي رئيسًا للوزراء بعد فشله انتخابيًا أمام القائمة العراقية.
تشكِّل ساحات الاعتصام في عموم محافظات العراق ظاهرةً رمزيةً تشير إلى انتفاضة جزء من المجتمع العربي في العراق ضد محاولات تقزيمه وتهميشه وارتهان إرادته؛ وهي السياسة التي دأبت عليها حكومات ما بعد الاحتلال منذ عهد إبراهيم الجعفري وحتى حكومة المالكي الحالية. لذلك، يثير تحوّلها إلى رمزٍ قلقَ الأحزاب السياسية المسيطرة على السلطة، ليس بسبب رمزيتها فحسب، وإنما أيضًا بسبب كيفية تحوّل هذا الرمز إلى هدفٍ يسعى لتأكيد سيطرة أصحابه على قراراهم وخياراتهم في مناطق تزيد مساحتها على نصف مساحة العراق (تعد مساحة الأنبار وحدها أكثر من ثلث مساحة العراق كله).
من هنا تهدف عملية فض الاعتصامات إلى كسر الإرادة المتنامية لسكان هذه المناطق في ممارسة حقهم في المشاركة الحقيقية في إدارة شؤون بلدهم، ومنع إنتاج قيادة جديدة أقدر في التعبير عن تطلعاتهم، وإحياء دور الوجوه المهادنة من المكون السني أو إعادة إنتاجها والتي ارتضت العملية السياسية الحالية في مقابل مكاسب شخصية هزيلة، وهؤلاء هم من دعاهم رئيس الوزراء للتفاوض باعتبارهم "أهل الأنبار الحقيقيين".
ويجد المالكي في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام "داعش" ظهيرًا كبيرًا في محاولاته تقسيم الصف العشائري في المنطقة؛ إذ شكّل دخول التنظيم في الأزمة ومحاولة استغلالها ضربةً كبيرةً للانتفاضة الشعبية في الأنبار، فضلًا عن أنّه يتيح للمالكي اتهام المنتفضين من أبناء المنطقة بالتعاطف مع القاعدة. تشكّل داعش مصدر بلبلة وتشويش وإحراج لنخب الانتفاضة وقاعدتها الشعبية على حد سواء؛ فهم يرفضون أن يكونوا في الخندق نفسه مع داعش من جهة، لكنهم - من جهة أخرى - يجدون أنفسهم وكأنهم يقاتلون في صفها بسبب إصرار المالكي على أخذ الامور في اتجاهات قصوى لا تترك مجالًا للتسوية.
نحو مزيد من التعقيد
على الرغم من أنّ رئيس الوزراء تمكّن بالتعاون مع بعض حلفائه في محافظة الأنبار من إخلاء ساحات الاعتصام، فإنّ الأزمة لا تبدو أنها في طريقها إلى الحلّ، بل إلى مزيد من التعقيد؛ إذ إنّ دخول "داعش" في الأزمة، وفي المدن تحديدًا، سيشكِّل مبررًا لحلفاء المالكي وفي مقدمتهم الحزب الإسلامي والصحوات السابقة لطلب النجدة من الحكومة، ما سينقل الأزمة من استقطابها الثنائي الراهن (أهالي الأنبار مقابل حكومة المالكي) إلى أزمة متعددة الأبعاد أطرافها: المالكي وحلفاؤه المحليون، وداعش، والمنتفضون، وعموم أهالي الأنبار الذين يتخوفون من انتقال القتال إلى داخل المدن. إنّ عودة المالكي عن قراره سحب الجيش، وإعادة زجه من جديد داخل المدن، وتدّخل داعش في الصراع الدائر بين الحكومة وأهالي الأنبار، يشكّل مزيجًا متفجرًا تزداد خطورته مع اقتراب موعد الانتخابات البرلمانية. لذلك، من المهم أن يقوم أهالي الأنبار بإخراج داعش من معادلة الصراع، وقطع الطريق على قيام المالكي باستغلال هذا الموضوع وترجمته إلى أصوات انتخابية داخليًا وإلى مزيدٍ من الدعم خارجيًا باعتباره يحارب الإرهاب.
إنّ نجاح انتفاضة الأنبار رهنٌ بتحقيق هذا الهدف من خلال إعادتها إلى مسارها الحقيقي المتمثل في مطالب المنتفضين المحقة في مواجهة عسف الحكومة وسياساتها الطائفية. بهذه السياسة فقط يمكن الحصول على تأييد ليس المحافظات المتعاطفة سلفًا فحسب، بل عموم المحافظات العراقية على اختلاف انتماءاتها المذهبية والعرقية.
وفي هذا السياق، يتعين ألا ينسى المنتفضون أنّ اللغة الطائفية والتقسيم المذهبي السياسي القائم اليوم في العراق هو نتيجة لسياسات الاحتلال، وأنه من الضرورة تجاوز هذه المصطلحات والعودة لإدراك أنّ شيعة العراق هم عرب وعراقيون، وأنه لا يجوز السماح بدفعهم نحو إيران. ويحتاج العراقيون في مسعاهم هذا إلى مساهمة عربية تمد خطوط التواصل مع سنة العراق وشيعته على حدٍ سواء.
[1] خرجت تظاهرات في جنوب العراق ذي الأغلبية الشيعية في تموز/ يوليو 2013 تطالب المالكي بالتنحي عن الحكم، انظر: "حراك شعبي ومظاهرات جنوب العراق لليوم التاسع على التوالي رفعت شعارات تطالب بتنحي المالكي وعزل الشهرستاني"، الشرق الأوسط، 27/7/2013:
ومع ذلك، لم يحدث تلاق للحركتين الاحتجاجيتين أو انسجام بينهما.
No comments:
Post a Comment