في الذكرى السادسة لرحيلك أيها الحكيم يا شريك العمر ورفيق الدرب النضالي الطويل والشاق، لقد غادرتنا جسداً لكن روحك الطاهرة
وذكراك العطرة وما زرعته من قيم ومبادئ وأخلاق ثورية ستبقى شعلة متوهجة تنير درب الأجيال أبد الدهر.
تحل هذه الذكرى الأليمة في زحمة الأحداث المفجعة التي يمر بها الوطن العربي من محيطه إلى خليجه. أيام عصيبة تعيشها جماهيرنا العربية لم تشهد لها مثيلاً من قبل. كيف يمكن للإنسان أن يصل إلى هذه الدرجة من الوحشية ويحمل كل هذا الكمّ من الأحقاد والضغائن التي تجاوزت كل الخطوط والحدود، من دون رادع أخلاقي، ويتحول إلى وحش مفترس يجرف كل ما يتحرك أمامه من بشر وحجر من دون تمييز، إنه انهيار لكل القيم والمثل التي نشأنا عليها وترسخت في وجداننا من محبة وألفة وإخاء وعيش مشترك بين البشر بعيداً عن التطرف الديني والتفرقة العنصرية والطائفية والمذهبية البغيضة.
إن ما يجري في سوريا والعراق ولبنان واليمن ومصر أم الدنيا وفي ليبيا والسودان يُدمي قلوبنا، ويفقدنا معنى الحياة الحرة الكريمة، شعور بالمرارة والألم والحزن العميق لفداحة الخسارة، شعب يُباد بشبابه ورجاله ونسائه وأطفاله وحتى شيوخه أمام أعين العالم، ومدن تدمر وملايين البشر تهجر وأطفال بعمر الزهور يقتلون بوحشية. مرحلة عصيبة عنوانها الوحيد هو التخاذل، تخاذل المجتمع العربي والدولي بما فيه نحن الشعب العربي، لقد تحولنا إلى كتل من البشر عاجزة عن فعل أي شيء، نشاهد المجازر والدماء والخراب نتأثر ثم نعيش حياتنا ونكمل المشوار بانتظار ما سيأتي بعد، إنه مخطط رهيب لتدمير الوطن وقتل المواطنة وكل ما يمت للمشاعر الإنسانية بصلة. إنها جريمة العصر والجريمة الكبرى صمتنا صمت ثلاثمئة مليون عربي وتبقى عذابات الناس صرخة في وادٍ ولا حياة لمن تنادي.
لقد شاء القدر أن يرحل ضمير الثورة قبل أن يشهد ما يجري في سوريا وطنه الثاني الذي عشقه وعشق الإقامة في ربوعه. رحل الحكيم القومي العربي الأصيل حاملاً معه مأساة شعبه وهمومه، وذكريات النكبة التي عاشها بكل مرارتها وأعبائها الثقيلة. ربما شاء الله أن يجنبه المزيد من المعاناة، لأن قلبه الكبير لم يعد يتحمل المآسي والنكبات. نفتقده اليوم ونفتقد حكمته ومواقفه المبدئية في القضايا الجوهرية والمصيرية.
لو كان الحكيم على قيد الحياة لوقف إلى جانب الحق إلى جانب الشعب السوري ومطالبه المحقة في الديمقراطية والعدالة والمساواة والتعددية السياسية وحرية الرأي والتعبير. لو بقي الحكيم على قيد الحياة لدافع عن شعبنا في مخيم اليرموك المحاصر ولم يتخل عنه مهما كانت التضحيات. إن شعبنا الفلسطيني لم يتدخل يوماً في الشؤون الداخلية لسوريا ولم يحمل السلاح إلا لمقاومة العدو الإسرائيلي وإن الشعب السوري احتضن شعبنا ووفر له الأمن والأمان وكان يتمتع بكامل حقوقه المدنية كأي مواطن سوري. لماذا زُج به في أتون الصراع الدموي المخيف؟
لماذا لم تعمل قيادات الفصائل على إجلاء المدنيين الأبرياء العزل من نساء وأطفال وشيوخ، وإجلاء المرضى قبل فوات الأوان. ان حماية المدنيين هي مسؤولية تاريخية لكل من بقيت عنده ذرة وفاء لشعبه ولقضيته، وإن ما يجري في اليرموك سيبقى وصمة عار على جبين كل من تواطأ على هذا الشعب، وأن التاريخ لن يرحم كل من شارك في حصار المخيم وستبقى لعنة الأبرياء الذين يعانون الجوع والعطش والفقر والقهر والمرض تلاحقهم أينما ذهبوا. وإن ما يجري في سوريا يتطلب من كافة أطراف النزاع أن تعلو فوق الجراح وتغلب مصلحة الوطن حتى لو تطلب ذلك تقديم بعض التنازلات لمصلحة سوريا الوطن. أتمنى على الدول الكبرى التي ترعى مؤتمر جنيف أن تنصف الشعب السوري وتحقق الاستقرار السياسي والأمني وليكن المؤتمر نقطة الانطلاق نحو المسيرة الديمقراطية وإعادة الاعمار والازدهار لهذا الشعب العظيم وعودة المهجرين، وتعود سوريا لدورها الطليعي في الدفاع عن الاخطار التي تهددها وتهدد الوطن العربي كله وأولها خطر الكيان الصهيوني الذي يهددنا جميعاً. ووضع حد لكل من استباح الأراضي السورية وطرد جميع المسلحين الغرباء الذين تلطخت أياديهم بدم الشعب السوري والعمل على وحدته ووحدة أراضيه.
وفي خضم هذه الاحداث المؤسفة نجد السيد كيري يكثف نشاطاته ويقوم بالعديد من الجولات المكوكية لدعم المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والقيادة الاسرائيلية بمباركة الادارة الامريكية واشرافها، ويجد آذاناً صاغية وتجاوباً منقطع النظير من قبل القيادة الفلسطينية، من دون قيد ولا شرط، ضاربة عرض الحائط بآراء الشعب الفلسطيني الذي يعبرعن رفضه القاطع للمفاوضات التي تجري سراً وعلناً في ظل التمدد الاستيطاني، الذي يخلق واقعاً جديداً على الأرض وبناء آلاف الوحدات الاستيطانية لتضع المفاوض الفلسطيني في حالة من العجز والإرباك أمام الشعب الذي طالما تمسك بالثوابت الوطنية، وعلى رأسها حق العودة، حق غير قابل للتصرف تكفله لنا جميع الشرائع والاعراف الدولية.
لقد ربط الحكيم عودته الى فلسطين بعودة خمسة ملايين لاجئ فلسطيني إلى فلسطين التاريخية، وحق تقرير المصير وإزالة المستوطنات وإقامة الدولة ذات السيادة وعاصمتها القدس، هذه الاهداف الوطنية التي دفع شعبنا ثمنها عشرات آلاف الشهداء والآلاف من المعتقلين وملايين المشردين في المنافي والشتات ليجد بعد ذلك أهدافه وأحلامه وآماله في مهب الريح تتبدد أمام التنازلات المجانية التي تفرضها الإدارة الأمريكية على المفاوض الفلسطيني في أروقة المفاوضات السرية، وكلها تصب في مصلحة العدو وتحقيق الأمن والأمان للمحتل الصهيوني، على حساب الثوابت الوطنية. فالاتفاقيات التي تعمل إسرائيل على فرضها تنص على السيطرة العسكرية على غور الأردن الحدود الفاصلة بين الأردن وفلسطين، فهذه تشكل ثلث مساحة الضفة الغربية الى جانب الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية الكبيرة في القدس والضفة الغربية مع أكثر من خمسمئة مستوطن، وتتحدث عن تبادل أراض والاحتفاظ بالسيطرة الأمنية الكاملة على الحدود والمعابر وشطب حق العودة لملايين الفلسطينيين وتطالب إسرائيل القيادة الفلسطينية بالاعتراف بيهودية الدولة، وهذا يعني ضمناً التنازل عن حقنا التاريخي في فلسطين، ويهدد شعبنا في مناطق 48 بالتهجير أي الترانسفير كل ذلك مقابل دويلة أو كيان هزيل مجزأ ومنزوع السلاح والسيادة، تحيط به الكتل الاستيطانية من كل جانب على أقل من 12′ من مساحة الضفة الغربية، أما القدس فستبقى بمفهوم الصهاينة عاصمة أبدية لاسرائيل.
لم يتركوا للمفاوض الفلسطيني أي شيء للتفاوض عليه سوى المطالبة بإقامة مطار وإنشاء بعض الفنادق والمنتجعات السياحية للراحة والاستجمام بعد الانتهاء من عناء المفاوضات المضنية. يكفي أن نعرف منذ بدء المفاوضات الأخيرة وحتى الآن قدم شعبنا عددا كبيرا من الشهداء ومئات الجرحى ومع كل دفعة من الأسرى المحررين القدامى تقوم اسرائيل بالاعلان عن إنشاء 1500 إلى 3000 وحدة سكنية جديدة. وماذا عن الشهداء الأحياء الذين يقبعون خلف القضبان وعددهم يقارب ثمانية اَلاف معتقل وما هو مصيرهم؟
عشرون عاماً من اتفاقيات أوسلو التي لم تحقق الحد الأدنى من طموحات شعبنا في الحرية والاستقلال الوطني وإقامة الدولة ذات السيادة، لكن الثمن كان مزيداً من مصادرة الأراضي وملاحقة المناضلين واعتقالهم أو قتلهم على الحواجز وفي بيوتهم أمام أطفالهم وأمهاتهم وزوجاتهم وعلى مرأى ومسمع من وقعوا الاتفاقيات الأمنية مع العدو، لقمع كل من يحاول القيام بأي عمل نضالي لمقاومة المحتل المتربص فوق أرضنا، إضافة إلى الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي انعكست على حياة المواطنين.
والآن بعد مضي عشرين عاماً من الفشل الذريع لاتفافيات أوسلو تعلن السلطة الفلسطينية أنها ملتزمة بالمدة المحددة لها للمفاوضات وهي تسعة أشهر لحل كل القضايا النهائية الشائكة، إنه بازار التسويات المجانية في موسم التنزيلات… باختصار إنه مشروع بغيض لتصفية القضية الفلسطينية في ظل صمت عربي وعالمي رهيب. لماذا يغيب شعبنا عن القرارات المصيرية التي تمس مصالحه في الصميم، من حقه أن يقول كلمته من خلال استفتاء شعبي حر ونزيه. نطالب بوقف المفاوضات التي تجري حالياً في ظل الأوضاع العربية المزرية وفي ظل اختلال موازين القوى الدولية غير المتكافئة.
وفي الختام أهنئ الشعب المصري العظيم في الذكرى الثالثة لثورة 25 يناير وثورة 30 يونيو هذا الشعب الذي يصنع المستحيل دفاعاً عن ثورته وحمايتها وعن حقه في الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والعيش المشترك وهنيئاً لهم اختيارهم الحر في الاستفتاء على الدستور الجديد الذي سيحقق لهم العزة والازدهار والتقدم والنجاح. وأحيي شعبنا العربي في تونس وأتمنى له المزيد من الاستقرار الامني والسياسي لتبقى تونس دائماً خضراء بشعبها وبعزتها ومكانتها.
حمى الله الوطن العربي بكافة أقطاره وشعوبه من قوى الشر التي لا تريد لهذا الوطن أن يزدهر ويتقدم وتعمل على تجزئته وتفتيته كي يبقى في غياهب التاريخ. تحية محبة ووفاء الى حكيمنا الغالي وستبقى ذكراه حية في ضمائرنا والمجد والخلود لكل الشهداء الابرار.
No comments:
Post a Comment