الياس خوري
هل نستطيع أن نطلق على جنيف 2 اسم مفاوضات؟ أم نحن أمام وقت ضائع في مسار المتاهة الدموية السورية؟
بدأ الوفد السوري برئاسة وليد المعلم مهلهلا وفاقدا للقدرة على الكلام، ملأ صمته باللغو والتحدي الإستفزازي، كأنه لا يدري أن الأمور أفلتت نهائيا من بين يديه، وأنه لم يعد صالحا كنظام حتى للمشاركة في المرحلة الإنتقالية.
ما يستطيعه لا يتعدى ما يقوم به الآن، إنه مجرد أداة لتدمير ما تبقى من الوطن السوري، وقوة استدعاء وجذب لقوى تدميرية طالما استخدمها لإخافة خصومه، فإذا بها اليوم تنفلت من عقالها، كي تشارك في المذبحة السورية المستمرة منذ ثلاث سنوات.
لا أحد يفاوض أحدا، اللاعبون السوريون في جنيف 2 ليسوا الموضوع، كما أن الدولتين العظميين ومعهما دول الغرب، لا تملك حلاً، إضافة الى أن تدميرسوريا بالطريقة التي ابتدعها الأسد يريح الدولة الصهيونية، التي كانت الرابح الأساسي من الصفقة الوحيدة التي أبرمت في سوريا وهي صفقة تسليم السلاح الكيميائي، من دون أي إشارة الى المخزون النووي الإسرائيلي.
ماذا يجري في جنيف 2 إذا؟ ولماذا؟
أغلب الظن أننا أمام فصل جديد مما كانوا يطلقون عليه اسم ‘المسألة الشرقية’، لكنه فصل بلا أفق. المسألة الشرقية كانت في نهاية القرن التاسع عشر ومطالع القرن العشرين تعبيراً عن الشهية الإستعمارية للإستيلاء على إرث رجل أوروبا المريض، فالدولة العثمانية كانت تتداعى، والإمبراطوريتان البريطانية والفرنسية كانتا في ذروة صعودهما. أما اليوم، فإن الإستبداد الذي حوّل العالم العربي الى رجل العالم المريض، ينجز مهمته، التي تتجلى في تدمير كل شيء، وتحويل المنطقة الى مسلخ لأبنائها.
العالم العربي لا يثير شهية أحد اليوم. حتى الشهية الروسية التي تجلت في موقف الدعم المطلق للنظام السوري في الأروقة الدولية، بدأت تتراجع، أو تبدو مرتبكة أمام الهول السوري.
فصل بلا أفق، فلا أحد في عالم اليوم مستعد للتورط في حرب نجح النظام في توحيشها. حتى الصور المروعة التي تم تسريبها عن إبادة المعتقلين تجويعاً وتعذيباً، لم تثر ما تستحقه من إدانة واهتمام. بل وجدت من يبررها!
جنيف 2 تعلن فقط حقيقة المأزق.
النظام يتفكك والمعارضات عاجزة عن بناء نصاب وطني جديد.
النظام يتوحش، وقوى وحشية تسللت الى الفراغ السياسي السوري مدعومة بالنفط والغاز والإعلام، تقدم الوجه الآخر للنظام بخطابها الإستبدادي.
وفي الوسط تقف المعارضة السياسية السورية لتعبر عن عجز السياسة عن بناء أفق جديد، وتأخذنا الى الأسئلة عن معنى الصراع، هل هو صراع في سوريا أم صراع على سوريا، أم مزيج منهما؟
هل تستطيع المعارضة أن تبلور مشروعا وطنياً سورياً أم صارت رهينة حلفائها الخليجيين الذين يخوضون حربهم المذهبية في مواجهة المعسكر الإيراني الذي يخوض هو الآخر حربه المذهبية؟
وسط متاهة الكلام الذي ينزف دماً، فقد الكلام كل معانيه. لم يعد الخبر العربي مثيرا إلا للشفقة. صار الموت بائتاً، وصار الإنهيار بديهة. حتى 25 يناير المصري بما حمله من حلم وأمل تحوّل الى ما يشبه الخيار بين كابوسين: كابوس الإخوان من جهة وكابوس العسكرة من جهة ثانية. استئثار بالسلطة من هنا واستئصال من هناك، بحيث فقدت المعاني معانيها.
مصر تبتعد ويلتهمها خيار لا تملك الجواب عليه، لأن السؤال المطروح خاطئ. فالشعب المصري تجاوز في ثورته سؤال نظام الإستبداد: إما أنا أو الإخوان. لكن هناك من نجح في إعادة السؤال الى نقطة البداية وذلك بسبب تضافر عاملين: ضعف القوى السياسية الديمقراطية والليبرالية وقوة الجيش.
لكن المسألة تبدو مختلفة بشكل جذري في سوريا، ضعف القوى الديمقراطية والليبرالية لا تقابله قوة الجيش. فالجيش السوري الذي تحول الى ما يشبه ميليشيا النظام لم يعد قادراً على حماية النظام عبر تقديم بديل له كما هو الحال في مصر. أما ضعف القوى الديمقراطية والليبرالية هنا، فإنه لا يفتح الباب سوى الى مزيد من العسكرة الأصولية، ومن إغراق الثورة السورية في أتون الحرب الأهلية.
الدم يراق كل يوم، من مخيم اليرموك حيث تمتزج الفضيحة الأخلاقية بالمأساة، ويقتل الجوع الفلسطينيين المتروكين لمصيرهم، الى حمص المحاصرة بالخوف والجوع، الى الغوطتين، الى الرقة التي يدعشها الظلام ويفرض عليها الترهيب والجنون، وصولا الى حلب التي تحولت الى مختبر لعبقرية البراميل المتفجرة.
الدم في الشوارع، والجلاد يفاوض ويترك لناطقته أن تترجم ترنحه قبيل السقوط بكلام يخجل منه الكلام.
لقد تحولت الأفواه الى مقابر للمعاني، وصارت الكتابة حائطا لإعدام الكلمات. يكفي أن نستمع الى المترجمة ومستشارة بشار الأسد بثينة شعبان وهي تحمل هم ّالمسيحيين وتجيب على أسئلة حول صور 11 ألف سوري قتلوا تجويعاً وتعذيباً في سجون سيدها. فإذا بها تُشهر سيف الدفاع عن الأقليات الدينية! أما كيف يدافع قتل الأبرياء في هذا المسلخ عن الأقليات فهذا جزء من قاموس الإستبداد التي لا يفقه معانيه سوى فلاسفة البعث الصغار الذين تتلمذوا على أيدي أساتذتهم في كوريا الشمالية.
الدم يغطي وجه سوريا، والصبر عيل صبره، ومع ذلك لا يملك الناس سوى صبرهم وصمودهم، وهم لا ينتظرون شيئا من أحد، انتظارهم الوحيد هو أن يملّ الإنتظار منهم ويدفع الوحش الى افتراس نفسه
No comments:
Post a Comment