عمر قدور
لنتخيل السيناريو التالي: مع أيلول/ سبتمبر 2012، غيرت لإدارة الأميركية جذرياً من نظرتها إلى "الربيع العربي". ففي ذلك التوقيت تعرضت السفارات أو القنصليات الأميركية في بنغازي والقاهرة وصنعاء وتونس لاعتداءات تباينات شدتها، على خلفية بث فيلم عُدّ مسيئاً لشخصية الرسول محمد. ومن الجلي أن البلدان الأربعة على وجه التخصيص كانت خارجة لتوها من الثورات التي أطاحت أنظمة الاستبداد السابقة، وتلقت شعوبها مساعدات أميركية متفاوتة النوع والأهمية في سبيل ذلك. ومن إحدى المفارقات أن الهجوم الأعنف وقع على القنصلية الأميركية في بنغازي، أي في المدينة التي شهدت ذروة التحالف الدولي لإطاحة القذافي. في ذلك الوقت أيضاً، كانت قوات المعارضة تتقدم بشكل حثيث نحو الإطباق على العاصمة دمشق وتقطع طريق مطارها الدولي، وبدا أن معركة دمشق الفاصلة باتت على الأبواب، وفجأة ينقطع كلياً الدعم العسكري عن فصائل المعارضة، وينقلب الوضع خلال أشهر قصيرة ليحاصر النظام غوطتي دمشق، ويستخدم الأسلحة الكيميائية ضدهما بعد نحو سنة.
خلال سنة، بين التاريخين السابقين، مُنعت المعارضة السورية من الحصول عن كافة أنواع الدعم المجدية، باستثناء ما يصلها تهريباً ولا يسد جزءاً يسيراً من حاجتها للدفاع عن نفسها فقط. مسرحية تسليم سلاح النظام الكيماوي صارت مكشوفة للجميع فيما بعد، فأهم بنودها غير المكتوبة كان الإبقاء على النظام حتى ينتهي ملف الكيماوي، والسماح له باستغلال المهلة لتعزيز مواقعه العسكرية، وقد شهدت تلك المدة مشاركة مكثفة من حلفائه في الميليشيات العراقية واللبنانية بغية تحقيق هذا الهدف، ما أدى إلى سيطرتهم على مدن ذات طابع إستراتيجي للمعارضة. حدث ذلك من دون أدنى اعتراض دولي، مع أن الجناح العسكري لحزب الله مصنف كمنظمة إرهابية لدى الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي. رغم ذلك، لم يتمكن النظام من استعادة سيطرته، ومقابل المناطق التي استعادها كانت قواته تنهزم في مناطق أخرى. ذلك لم يمنع أوباما من الغمز من قناة مقاتلي المعارضة والقول في الشهر السادس من هذا العام بأنه لا يمكن لمزارعين وأطباء أسنان أن ينتصروا على الأسد. قول أوباما هذا يعتبر في اللغة السياسية طلقة موجهة مباشرةً إلى المعارضة، وإشارة إلى النظام مفادها أن في وسعه الانقضاض على أولئك المزارعين وأطباء الأسنان.
في خضم التطورات السابقة كلها، أتى تقدم داعش ليشكل أكبر تهديد محتمل لنظام الأسد، بصرف النظر عن ضلوع الأخير في إبراز الجماعات المتطرفة وحتى دعمها. ولأن التطورات التي رافقت تمدد داعش في العراق وسوريا لا تزال ماثلة في الأذهان لقرب عهدها، لا حاجة للتذكير بسرعة الإدارة الأمريكية على المستويين العسكري والدبلوماسي لمواجهة داعش. ولا حاجة للقول بأن داعش بات يمثل تهديداً مشتركاً للمصالح الأمريكية والأسد معاً. أما تهديد هذا التنظيم لعموم السوريين فلا يمكن اعتباره عاملاً مؤثراً لأن استهدافهم لثلاث سنوات سابقة من قبل النظام لم يدفع المجتمع الدولي لمساعدتهم. إن أهم ما تمخضت عنه إستراتيجية التحالف الدولي ضد داعش هو اتفاق مجموعة "أصدقاء الشعب السوري" المنضوية فيه على أن تنحية الأسد ليست أولوية، وعلى أن الأولوية المطلقة هي للقضاء على داعش، الأمر الذي يستدعي وقتاً طويلاً جداً يُقاس بالسنوات، وربما بعقود منها. أما قصة تدريب خمسة آلاف مقاتل من المعارضة المعتدلة، أيضاً ضمن برنامج يستغرق عشرات الأشهر، فمسألة مثيرة للسخرية حقاً، لكنها تتمم ما قاله أوباما قبل أشهر من عدم صلاحية المقاتلين الحاليين الذين ليسوا إلا مزارعين وأطباء أسنان!
إذاً، ما الذي فعلته الإدارة الأميركية سوى تقديم حبل الإنقاذ للأسد عند كل مأزق حقيقي وقع فيه؟! وما الذي كانت عليه "مجموعة أصدقاء الشعب السوري" سوى هيئة لضبط الأعضاء المتحمسين من دول أوروبية وإقليمية لإطاحة الأسد؟
ربما كانت استعادة الوقائع السابقة والأسئلة اللاحقة عليها تحيل إلى نظرية المؤامرة المذمومة، لكن نظرية المؤامرة تفترض وجود خفايا لا تعلم بها إلا دائرة ضيقة من النافذين. في حالتنا هذه لا حاجة إلى التخمين في ما وراء الكواليس. يكفي فقط بعض الفهم الجيد للتعابير والإشارات الدبلوماسي لاكتشاف المغزى الحقيقي لها. على هذا لا يصعب مثلاً اكتشاف أن التحالف الدولي ضد داعش هو في جزئه الثاني استكمال لاتفاق نزع الأسلحة الكيماوية من النظام مع ما يقرره ضمنياً من الإبقاء عليه. في أثناء الحرب على داعش ليس مطلوباً من النظام غير أن يتغير قليلاً بما يحفظ ماء وجه المتحالفين، بمعنى أن يؤهل نفسه ليكون شريكاً في تسوية سياسية قادمة، فأوباما صرّح مؤخراً بأن الأسد "لم يقل طبيب العيون" لا ينبغي أن يقود (بمفرده) العملية السياسية في سوريا.
تبقى مشكلة صغيرة أمام هذا التصور، أو بالأحرى هي معضلة كبرى، فالنظام أثبت حتى الآن لحلفائه قبل أصدقائه أنه عصي على محاولات إنقاذه. أقصى إنجاز للنظام، رغم الدعم المادي والبشري الضخم من حلفائه، أنه لم يسمح للثورة بالانتصار، لكنه لم يتمكن حقاً من تلافي عجزه عن الانتصار. لقد سُمح لحلفائه باستنفاذ كافة الوسائل لإنقاذه وفشلوا، فهل يملك التحالف الدولي الوصفة السحرية لفعل ما فشلت فيه روسيا وإيران من قبل؟
No comments:
Post a Comment