عزمي بشارة
6 أكتوبر 2014
من المصائب غير النادرة التي ابتليت بها المجتمعات العربية، أن أحزابها السياسية التي ادعت أنها راجعت تاريخها بشأن الموقف من الديمقراطية، لم تذوّت قيم الديمقراطية في الحياة السياسية العملية، وظلت الأخيرة شعارًا ضد الاستبداد، وليس بديلاً له في الممارسة.
عجزت القوى السياسية العربية، حتى تلك المناهضة للاستبداد، عن الاتفاق على قواعد إدارة الحياة السياسية بشكل ديمقراطي، وعن احترام تشكيل حكوماتٍ بالأغلبية، حين سنحت الفرصة، أو التوافق والوحدة الوطنية في مراحل الأزمات والكوارث، وفي المراحل الانتقالية. وغالباً ما طُرِحت حكومات التكنوقراط مخرجاً اضطرارياً. بحيث يعهد لمجموعة من الخبراء غير المنتمين لقوى سياسية بتشكيل حكومات، إذ تبلغ أنانية الأحزاب درجة تفضيل غير الحزبيين على الاتفاق بين الحزبيين؛ وهو أمرٌ يمكن اعتباره ذماً للتحزب وحطاً من شأنه، بقرار من الحزبيين أنفسهم.
ليس ممكناً إقامة ديمقراطية تمثيلية، من دون تنافس بين أصحاب مواقف متحدين في روابط سياسية تُسمّى أحزاباً، ولديهم اجتهاداتهم بشأن كيفية إدارة شؤون الدولة، اقتصادياً وسياسياً، على أساس قيمي مشترك، سبق أن أرسي، وتحت سقفٍ وطنيٍ، سبق أن رفع، فلا يطاوله الصراع، أو يمس به التنافس، وذلك إلى حين نشوء إجماع وطني جديد، يرسي أسساً جيدة، ويرفع السقف، أو يخفضه. وبطبيعة الأحوال وطبائع البشر، تجتذب الأحزاب أفراداً وزمراً من محبي السلطة والشهرة، ومن العصبويين على أنواعهم، وقد يقف خلف بعضها أصحاب مصالح. ومن بين ما تمتحن به درجة تطور الديمقراطية قدرتها على مراقبة هذه الظواهر، والحد منها حين تشكّل خطراً على مصالح الدولة وسلامة العملية الديمقراطية.
أما التكنوقراط، فيفترض أنهم خبراء لدى من ينتخب للحكم، إنهم بحكم التعريف يديرون ولا يحكمون، وينفذون القرار ولا يصنعونه. ورفعهم إلى مستوى صنع القرار هو ارتداد عن الديمقراطية التمثيلية. وبهذا المعنى، ثمة شبه بين حكمهم وحكم العسكر. فمن الزاوية هذه، يمكن اعتبار العسكريين، أيضاً، نوعًا متميّزًا من الخبراء (من حيث خطورتهم أيضا).
وكما يتغلغل في الأحزاب انتهازيون وعصبويون، يتسرب مثلهم إلى صفوف الخبراء، كما يتسرب إليها جهلة يدّعون الخبرة، مؤهلهم الوحيد أنهم غير حزبيين، وكفاءتهم أنهم لم يتخذوا موقفًا في حياتهم، أي أنهم حوّلوا الجبن والانتهازية إلى شيم يُعتدُّ بها. ومن هنا، غالباً ما نرى أن حكومات التكنوقراط تفشل في مجال خبرتها بالذات، لأن أصحابها يتقنون التنفيذ، لا صنع القرار وحساباته، أو لا يتقنون هذا ولا ذاك.
المصيبة الكبرى أنهم يقدمون نموذجًا مضادًا للمثقف. إنه نموذج الخبير الذي تمكّن من العيش في ظل القمع والديكتاتورية، وسجن زملاء له وتعذيبهم من دون أن ينبس ببنت شفة، وعاش نكبات شعبه، وهو يفكر في مصلحته الشخصية، وحوّل المداهنة والتسلق والخدمة مع كل العهود إلى رأس مال سياسي، وذلك بسبب عجز الأحزاب والقوى السياسية عن التفاهم على قواعد التحالف أو تبادل السلطة.
تحتاج الديمقراطية إلى أصحاب مواقف وخبراء، وليست فئة بديلة عن الأخرى. ولا يمنع أن يكون أصحاب المواقف خبراء، وأصحاب اختصاص في بعض الشؤون، وأن تكون لدى الخبراء مواقف سياسية، أو أخلاقية عامة على الأقل. وثمة درجات بينهم، أسوأها صاحب الموقف العصبوي الجاهل من جهة، والخبير عديم الضمير من الجهة الأخرى.
No comments:
Post a Comment